أنسي الحاج
أستحضرُ، في لحظات الضياع «الإضافي» كهذه، روح أشخاص مثل فؤاد حدّاد (أبو الحنّ)، جوزف نجيم، فؤاد كنعان، يوسف الخال... ووالدي. أتساءل: ماذا كانوا فعلوا؟ أي ماذا كانوا قالوا. خصوصاً الأوّل، ذلك التائه العزيز النفس خَلْف يقيناته السياسيّة والميتافيزيكية المعلنة، المتوَهَّمة والمعلنة، المعلنة والمستترة بأسماء مستعارة أو بلا أسماء إطلاقاً، المتوهَّمة حتّى الوصول به معها إلى الاستشهاد، ولعلّه بالأصحّ انتحار.
فؤاد حدّاد الذي قضى قبل خمسين عاماً، لا يعرف عنه اللبنانيون شيئاً. لا أجيالكم الجديدة فحسب، بل أجيالهم القديمة وأجياله هو أيضاً. نابغة أدب وقصّة وفنون وقلق وسخرية، وشرْب عَرَق حتى الصباح، نابغة وجود فردي حُرّ، موحَش وسَكوت، زعيم عذاب اليتمْ الروحي، أسير الخوف على كل ما هو هَشّ، وإقناع الذات بأنه صلْب لا هَشّ، مثل لبنان، والقيامة، والخَلْق، والأمّ، والجمال.
ماذا كان سيكتب هؤلاء الآباء ومع مَن كانوا سيقفون؟ والسؤال الذي أحاول أن أتهرّب منه: هل كانوا هم أيضاً سيصدموننا؟

مَن لم يصدمنا بعد؟ الذي صَدَمَنا بسطحيّته، كالدول العظمى، والذي صَدَمَنا بلانهائيّة «واقعيّته»، كالدولة الأشدّ عظمة،
الذي صَدَمَنا بتغريز أنيابه في صدورنا حتى الخروج من الظهر،
والذي صَدَمَنا بتسليم إرادته وضميره تارة إلى صاحب القَتْل وطوراً إلى صاحب المال،
وغداً مرّة أخرى إلى صاحب القَتْل حين يثبت بالبرهان أنه الأكثر دواماً.
إنها الساعة الثالثة من فجر الجمعة 23 تشرين الثاني 2007.
ليس هناك «غداً».
الغد في القبر.
ووزراء الترويكا الأوروبيّة يردّدون كجوقة أطفال منافقين: «اللبنانيّون وحدهم سيختارون رئيسهم».

نحسب أن الغُيّاب يعرفون لا لأنهم يعرفون بل لأنّهم غُيّاب. الضالة كائنة دوماً حيث يستحيل التحقُّق. الحقيقة هي في الخيال وحده، في الحنين، وحَشْوَتُهُ خيال، وفي الحلم، أبي الخيال وابنه. لو اجتمع الآن شارل مالك وأنطون سعادة وفرج اللّه الحلو هل كانوا سيتّفقون على مَخْرَج؟ في وقت ما من العمر، في مناخ ما من الطبع، يؤمن المرء بطاقات الأفراد. ثم يتّضح أن هذه الطاقات كانت إمّا نتيجة ظروف موضوعيّة وإمّا اغتصاباً للدور أو للسلطة هو أيضاً نتيجة لظروف موضوعيّة.
لا بطولة هناك ولا ما يحزنون. دع عنكَ لوم مَن تلوم. أقفل هذا التلفزيون واطوِ جريدتك. حتّى حبّك، لحمه الزهريّ هذا، ليس حبّك. نحن هُمٌُ الهواء الذي يديرنا. الطواحين. الطواحين ليست هدفاً فقط لعنترة الإسباني، بل هي ألعاب للريح. جسدكَ هذا الذي تتمخطر به ليس جسدك. العالم كلّه جاء لينتخب رئيساً لجمهورية لبنان وأخفق. «العالم» ليس هو العالم. وزراء الترويكا الأوروبيّة أقنعة ليس وراءها شيء. أميركا فيلم. الشقاء اللبناني قربان للجميع. حَلَال. «أنتم تختارون رئيسكم لا نحن، نحن هنا فقط لمساعدتكم». ليتكم تنتخبونه أنتم لنا. كانت الحال أفضل أيام شارل دبّاس وبترو طراد وحبيب السعد وأيوب تابت وألفرد نقّاش وإميل إدّه. قد أخطئ في الترتيب الزمني، الزمن غير مهمّ عند الشعوب التي شقاؤها قربان للجميع. للأقربين أوّلاً وخصوصاً، طبعاً دون شك، فهم أَولى بدمنا ولحمنا من الغرباء. وهم ملوك الزمن. ولا جديد في كلّ هذا على اللبنانيين. ومن قبل الحكم العثماني. من عهد الفينيقيين. لم يعطهم أحد حقّهم. أثينا، ناشرة الحضارة، كرهتهم وظلمتهم ولقّبهم شاعرها الأعمى بـ«السود». أعطوا روما الأباطرة والحكماء ولم تُعطهم غير معابد تضطهد بها آلهتهم وتُحلّ محلّهم آلهتها. ولنقفز إلى الحاضر لنرى كيف ينكّل اللبنانيون باللبنانيين، تارة بالأصالة عن أنفسهم وطوراً بالنيابة عن واشنطن ودمشق وطهران. كلّ مناسبة فرصةُ تنكيل. أيّ شيء. ليتكم انتخبتم لنا رئيساً. ليتكم بقيتم في لبنان أيّها الفرنسيّون ولم نأخذ استقلالنا. أيّها العثمانيّون. أيّها السوريّون.
أيّها السوريّون؟ ولكن متى كان السوريون يحتلّوننا؟ معاذ الله! كانوا هنا بطلب من الإخوة اللبنانيين. لحَقْن الدماء ووقف الحرب الأهليّة والمحافظة على المقاومة الفلسطينيّة.
وبالمناسبة، هل ظننتم أنّهم ذهبوا لتناشدوهم العودة؟

قد ينبري وطنيّ مستهجناً استخفافي بالاستقلال ويذكّرني بمحاسن الحريّة.
وأتمنّى أن يدلّني على هذه الحريّة.
أنا لم أتشرّف بمقابلتها بعد في لبنان ولا في العالم العربي، حتى لا نبتعد أكثر.
أعرف نسبيّاتها. نسبيّات جغرافيّة وسياسيّة، وقلّما تهمّني. الحريّة التي تهمّني قد يسلبني بعضها استعمار أو احتلال ولكنّه لا يستطيع إعطائي إيّاها. هذه الحريّة فضاء داخلي. لا ريب تتأثر بالمحيط، وما يضغط من خارج يعكّر من داخل. لكنّ كل سطوة النظام الشيوعي لم تستطع منع بوريس باسترناك الأعزل من وضع رواية «الدكتور جيفاغو».
ما يفعله التطاحن الداخلي في لبنان هو إرهاب أشدّ فتكاً من سطوة الاحتلال. ولو شاء النظام السوري أن ينتقم لإخراج جيشه من لبنان لما استطاع أن يفعل أكثر ممّا يفعل التطاحن الداخلي.
ولو كان هناك أمل بثورة شعبيّة عامّة تُغيّر الواقع لهانت الآلام، لكننا ممسوكون على نحو من الجهنّمية بحيث لا مجال معه في المدى المرئيّ لانتفاضة جماعيّة إلاّ تحت طائلة تحويلها فتنة طائفيّة أو مذهبيّة.
لقد أصبحت الساعة الرابعة من الفجر.
بيروت عاصمة الشقاء.

أَسْتَحْضرُ... فيمَ أَتعب؟ هوذا فلان بالأمس يطمئننا عبر الشاشة (شاشة أسْمَك من الباطون المسلّح) إلى أن كلّ شيء سائر على ما يرام. وقبله مثله ثلاثة أربعة.
خطر لي أن أسألهم عن أرقام ملايينهم في مصارف سويسرا وأميركا.
هؤلاء المتفائلون الذين بينهم وبين الإقلاع بالطائرة شَعْرَة، ولا علْم لهم بدنيا تحصيل الرزق.
كُثُر منهم بين النوّاب، هنا وهناك. وكثر بين «النقابيّين».
وبين الصحافيّين.
لولا أمثالهم لما استمرّت حروب لبنان كلّ هذه السنين. تفاؤلهم غذّاها، أمدّها بالوقاحة.
وتحت ستار ترغيبنا بالحياة يخدّروننا في انتظار الموت. في انتظار المزيد من الموت.
لم أعد أصدّق لبنانيّاً غير فقير.
لم أعد أرى إنساناً في غير الفقير.
واللبناني الذي استطاع أن يبقى فقيراً رغم الحرب، ورغم صعود نجم المليارديريّة وزوابع أتباعهم، ورغم ثراء تبييض الأموال وتجارة السلاح والمخدّرات، ورغم سهولة العمالة هنا وهناك،
هذا اللبناني القدّيس أو البسيط الساذج هو الشعب الذي ينام الليلة على صمتٍ يُدوّي صميمه بالتهديد.
ولا يحتاج مَن يُحسّكَ، مَن ينظر إليك أيّها الشعب، لا يحتاج أن يستحضر ولا روحاً ليستقرئ جوابك على الدهر.
جوابك هو أن الجميع يحتاجون إليك، سواء ليبيعوك أو ليصلبوك، وأنت لستَ في حاجة إلى أحد...
هذه قوّتك، وهذا شقاؤك، أيّها القربان...