أنسي الحاج
هناك أمور لا تُفهم إلّا على ضوء الأقدار. التفسير المنطقي لا يفسّرها. منها، مثلاً، عداوة الذات، الخسارة المنهجيّة لكلّ ما يجاهد المرء من أجل تحقيقه. كلمة «مسكون» أفصح من أي تحليل واقعي للإهدار الذاتي لدى بعض الأشخاص.
قالت لي مرّة إحدى الشخصيّات: «أنا في ما يتعلّق بالعمل لا أعرف الكرامة». كانت تلك الشخصية شاهدة لمونولوغ حواري صاخب بيني وبين شخص قرّرتُ أن أضع حدّاً لعلاقة معه. تشنّجتُ، وبَدَل الصلح زدتُ الوقيعة. أنا أيضاً في بعض الحالات أستهتر بكرامتي، في حالات الارتهان العاطفي. هنا العبوديّة شغف أو هواية، والإدمان غريزة. الغريزة دائماً مَرِحَة. الذي يَحْسب ويندم هو العقل. لكنّي تقليدي في كراماتي الأخرى، تلك الصبيانيّة.
نادراً ما يتلاقى الذكاء والأنَفَة. في مرحلة سابقة رغبتُ بمصادقة أذكياء، علّ توازناً ما يستقيم فيّ بفضلهم. لم يطيقوا سذاجتي. عوَّضتُ عنهم بملازمة سذّج. شعرتُ ببعض الذكاء شعوراً كاذباً كان يطيحه أول احتكاك لي بأذكياء حقّاً. لا أنسى عبارة تلك الشخصيّة غير السياسيّة: «أنا في ما يتعلّق بالعمل لا أعرف الكرامة». لعلّ هذا هو وَهْب الذات كليّاً للمهنة. لا أظنّ. إنه انصياع اعتاده صاحبه فخاله قاعدة. أكثر ما أعرف الكرامة هو في مهنتي الصحافيّة، ربّما لأنها تحتمل جميع الأساليب وإغراءاتها كثيرة، للإثراء وللمنصب، للتسلّط ولغسل الأدمغة، والأيادي عليك من خارجها كثيرة، أيادٍ تمتدّ بالمسدّسات وأخرى بالمغلّفات وكلّها بالسقوط. الكرامة مفهوم نافر العروق، لكنّها السدّ الوحيد أمام التلوّث، بالأخصّ عندما تحيط بك مليارات العرب ومليارات أبناء البلد، البلد العائم على البؤس والانهيار، ويصبح الفساد هو الناموس.
... يَحْسُن بي هنا أن أتوقّف متسائلاً ألا أَموّه الفقر المفروض بالزهد الاختياري؟ ومَن ذا أقوى من إغراء الشيطان؟
ولكنْ لمَ نحسب الشيطان في الرشوة والفساد ونحسم بأنه غير موجود في الحرمان والفقر؟ غير موجود في الكرامة، في الفضيلة؟ وهل الشيطان من البلاهة بحيث ينحاز إلى عنوان دون آخر قاطعاً على نفسه باقي الدروب؟ لا مع الشرّ ضدّ الخير هو ولا العكس، الشيطان هو مَنْ ينتصر عليك، أيّاً يكن، وفي أيّة ساعة كانت.
الشيطان هو مَنْ يهنئ نفسه لانتصاره على الضعيف والبريء والجميلِ فيك.




إلّا حياة الناس

لا يتساوى الشهداء بالدم، بل بالقضيّة. ثمّة دم لا يُعمّد ضحيّته وثمّة قَتَلَة لا يُصنَّفون مجرمين.
تَسْهل عليك الكتابة وأنت في أحضان الحياة. كان لي صاحب يقول لي: «شو صاير عليك؟». أي لمَ هذه الحدّة. ولكنْ أين الحدّة ولم نعد نجرؤ أن نسمّي؟ نحكي عموميّات حتى لا يزعل المسترئسون ونُزَوْرب حول فلان حتّى لا يَغْضب. أما السيد فلان الثاني، فأقلّ انتقاد سافر قد يُفْهَم ابتزازاً إمّا له وإمّا لطائفته. كذلك فلان الثالث والرابع وإلى آخرهم. كلّهم مقدَّسون لا يُمَسُّون.
ودماء الشهداء. لا حول ولا قوّة. كلّه مقدَّس حولنا، فَوْقنا. كلّه إلّا حياة الناس الذين لا تعتبرهم ثقافاتنا التقديسيّة أكثر من مماسح.




نوم القتيل يبتسم

الرابط بين القاتل والقتيل هو أعمق الروابط الإنسانية: كلاهما صَنَعَ واقعاً مأساوياً وترك للآخرين محاولة اكتناه أسراره.
التعبير الرائج يقول إن المجرم لا ينام لأن ضميره يعذّبه. قد يتأرّق أحياناً لسبب آخر، هو التلذّذ بتحويم الباحثين عنه. في المعادلة بين الطرفين يمكن التكهّن بدوافع القاتل وخواطره، ولكن ما أحوجنا إلى ترجمان يكشف لنا أفكار القتيل! لقد كان هذا منذ المغدور الأول هابيل ولا يزال حتى مغدوري اللحظة، اللغز الأكبر، المفتاح الضائع لأحد الأبواب الرئيسيّة. تُرِك للعقل أن يخوض في مضمار الخير والشرّ غماراً لا نهاية له. القاتل يَقْتل ويظلّ بيننا قيد التداول، قيد الفهم، القتيل يذهب ويتركنا نتخبّط في محدوديّة القانون وغريزيّة الثأر وكليشيهات الأخلاق. القتيل، عند البحث عن الحقيقة، هو الطرف القهّار.
القتيل ينام، والنائم يسحب معه العالم. المتحدّثون حول النائم، مثل الصامتين، زوّار من كوكب آخر. نوم القتيل يبتسم. لا ينتظر منّا شيئاً. يرى حدودنا الصغيرة وعضلاتنا الصغيرة وعيوننا الصغيرة. أوتاره لا تكاد تتجاوب إلّا مع ريشة أفكار قاتله. يمتدّ بينهما جسر أمتن من الاتحاد، جسر التكامل يمتدّ بينهما.
لا يعرف القاتل إلّا القتيل. الباقي صَخَب على ضفاف أوقيانوس ليل بلا قرار.




بين ما ضاع

لا شيء مُعفى من الذوق. أشخاص بشعو الهيئة أتقنوا فنون الذوق فأصبحوا على جَمال.
بين ما ضاع، الذوقُ في السياسة، حيث يمكن إذا توافر أن يوصل إلى حالات إنقاذيّة، فضلاً عن تلك البنّاءة.
قلّة الذوق جنحة جماليّة لا تلبث أن تنفتح على الجرائم الدمويّة. غالباً ما يرتكب هذه الجنحة المجتمع السياسي في دولة شديدة القوّة بدافع الغطرسة المصفّحة، والمجتمع نفسه في الدولة التي تتخبّط بين التخلّف المدقع والانتفاخ، بدوافع الجهل والتشبُّه.




مد وجَزْر

المستغرق في الفكر التجريدي يحتاج إلى الغرق، في أوقات أخرى، تحت أمواج المحسوس. الذي لا يشعر بهذه الحاجة، من الفلاسفة أو الأدباء أو مدمني المقاهي، هو نوع من أبطال صمويل بيكيت. هيكل عظميّ أحلَّ صحراء العقل (أو اليأس) محلّ الدورة الدمويّة، أو طيف كائنٍ اختصر حياته ببضع عبارات دقيقة، أمينة، مميتة، وحركاته بجمود الموت الاستباقي.
لا مفرّ من التجريد في الفنّ والفكر. ولا بدّ منه في المسلك اليوميّ. ومن العدل أن يتسبّب امتصاصُه للمرء بحاجة إلى إعادة التوازن لجهاز هذا المرء، عَبْر التهام ما أمكن من الغذاء المحسوس.
المريب هو العكس. العكس مريب ومحبط لأنه يكشف قدرات ذهنيّة وروحيّة غير طبيعيّة. الاستغراق في التجريد ودائماً في التجريد ليس فقط هيكلاً عظميّاً تديره آلة الفكر عوض اللحم والدم، بل هو هيكل غَيبيّ نظريّ يابس يجهل طعم اللذّة، فكيف له أن يعرف من الألم غير مصطلحات الذهن.




تلاقي ولادتين

حين يقول رجل لامرأة «أنتِ القَدَر متنكّراً بامرأة» تضحك لا مداعبةً، بل تخفيفاً من عبء شعورها بفداحة سلطتها. إنها امرأة متنكّرة
بضحكة.
وسوف يقول رجل لامرأة: «قَدَرُكِ يبدأ حيث ينتهي قَدَري» فتظنّ الأمر إشارة إلى الزمن.
لكنّها أيضاً إشارة إلى حيث تتلاقى ولادتان: واحدة تنفصل إلى الحياة وأخرى تنفصل عنها...




عابرات

• عرف كم يحبّكِ حين عَرَف كم يحبّ شبيهاتك. كم لا يحبّ إلّا شبيهاتك. وما دمتِ تشبهين صورتكِ أكثر ممّا يُشْبهنكِ ستظلّين الآمرة على الهاجس.
• كلّما اقترب الواحد من الجوهر اقتربت ساعته. الواصلون باكراً رحلوا باكراً. الأذكياء هم الذين يُنظّمون اقترابهم بالتقسيط.
• لا تُحَبّ الكتب المتوافرة دوماً في المكتبات. إلحاحها يلغي الشوق إليها. يجب أن يكون الكتاب على الرفوف مثل اللقيا لا المعلّبات.
• بعض الكتب أجمل من صاحبه، وبعضها صاحبه أجمل. الأجمل من مؤلّفيها هي تلك التي تُوْقعهم في قول ما لم يكونوا يريدون قوله.