strong>بول الأشقر
سلّم سلاح البحرية الأرجنتينية مباني «المدرسة العليا لعلوم الميكانيك» المعروفة باسم «إي س م أ» ESMA التي تعدّ أحد أكبر معسكرات التعذيب السرّية في تاريخ الأرجنتين، ليُصار إلى تحويلها إلى «متحف للذاكرة» وفتح غرفها أمام الجمهور العريض. حفل تسليم لم يخلُ من اللحظات المؤثّرة وصفته الصحافة الأرجنتينية بـ«الخطوة المهمة جدّاً في تاريخ الشعب الأرجنتيني». حضر حفل التسليم إضافة إلى وزيرة الدفاع وأميرال سلاح البحرية، وزير الدولة لشؤون حقوق الإنسان في المحافظة عمر عبود، وموظفو المؤسسات التي ستعمل في المكان، إضافة إلى ممثلي تجمعات أمهات المفقودين. ويعدّ الحدث نقطة وصول لمسار بدأ عام 2004 عندما أمر الرئيس كيرشنير بتحويل المبنى المعروف بـ«نادي الضباط» إلى مقرّ لـ«متحف الذاكرة». وفي الحفل الذي كرس خروج سلاح البحرية من المنطقة تسلمت مدينة بوينس آيرس مفاتيح التجمّع الذي يحتوي على 34 مبنى على أرض مساحتها 17 هكتاراً.
وكانت المدرسة قد بدأت تشهد بعض التغيّرات قبل يومين من التسليم، فانهمك الموظفون من الطرفين بتجميع البيانات التفصيلية لجميع المحتويات. وتقول جوديت سعيد، مديرة الأرشيف في «متحف الذاكرة» التي تعمل فيه إلى جانب النشاط العسكري التعليمي إنّ «المدرسة كانت مغلقة على الخارج ويحرس حرمها جنود، فيما تقضي مهمتنا نحن بفتح المكان للجميع، فهو في النهاية ملك كل الشعب الأرجنتيني».
و«المدرسة العليا» ليست كباقي معسكرات التعذيب السرية الـ400 التي وزعتها الديكتاتورية العسكرية في بداية السبعينيات على طول البلد، بل كان أشهر مركز للقتل في أسوأ الأنظمة الديكتاتورية التي عرفتها أميركا اللاتينية، ويقدر عدد المعتقلين الذين كانوا فيه بـ 5000 معتقل، خرج 150 منهم فقط أحياءً. و«نادي الضباط» الذي يطل على شوارع هادئة ومليئة بالشجر من بوينس آيرس هو دليل دامغ على مسؤولية القوات المسلحة في سياسة منهجية لتصفية جسدية شاملة لمعارضي الانقلاب العسكري على أنواعهم. هنا، عذب أولاد أمام أهلهم حتى الموت، وأهل أمام أولادهم. ولم يبق أي أثر لغالبيتهم، لأن عمليات حرق الجثث كانت يومية. من هنا، خرج المعتقلون مخدرون مباشرة إلى «رحلات الموت»، حيث تم رميهم من على متن الطائرات أحياء في البحر. وهنا، تحول المستوصف إلى دار ولادة من نوع خاص، إذ كان الرضّع يؤخذون من أمهاتها عند الولادة، ويباعون مقابل مبالغ لعائلات عسكرية كانت تريد التبنّي، فيما يجري إعدام الأمهات.
«المطلوب الآن تحويل المكان ببطء، وفتحه للعامّة، وخصوصاً إذا كانت الذاكرة لا تزال حيّة» تقول إحدى الأمهات اللواتي ذقن طعم التعذيب في ذلك المعسكر. والذاكرة الحيّة التي تتحدث عنها هي جلسات المحاكمات التي لا تزال تعقد لغاية اليوم، وكانت آخرها محاكمة الكاهن الذي كان يتلطى بجبّته للضغط على المعتقلين ومباركة التعذيب. أو تلك التي شهد فيها جوليو لوبيس، عامل البناء الذي كانت شهادته حاسمة للحكم بالسجن على أحد كبار المعذِّبين، والذي اختفى «بظروف غامضة» في اليوم الثاني على إدلاء شهادته تلك.