strong>بشير صفير
غيّب الموت فجر أمس رفيق حبيقة (1945) حاضن الأغنية اللبنانية الشعبية في آخر مراحلها، قبل أن يتخلّى عنها مبتعداً عن الموجة التي انحدرت بالفن الشعبي إلى قعر التجارية منذ مطلع التسعينيات. توارى عازف الكمان الهادئ ذو التسريحة الثابتة والشعر الأبيض الكثيف الذي كان كثير الإطلالات على الشاشة الصغيرة... حتّى خلنا أنّ الجمهور نسيه تماماً، خصوصاً أنّه انعزل في سنواته الأخيرة وتفرّغ للرسم موطّداً علاقته بالألوان في محترفه في الأشرفية حيث كان يمضي معظم أوقاته بعيداً عن الأصوات والأضواء.
والشاشة التي حملت رفيق حبيقة إلى كل المنازل، قد تكون نفسها التي أسهمت في تغييب صورة الفنان الراحل عن الذاكرة الموسيقية الشعبية لجيل الحرب، وما بعد الحرب. لكنّنا اليوم نستعيد شاهداً على حقبة كاملة وزمن جميل آفل كان فيه تلفزيون لبنان الرائد في السبعينيات والثمانينيات. هكذا، نستحضر مشاهد من «ليالي بيروت» و«استديو الفن» قبل انتقاله لاحقاً الى شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال. ونتذكّر مطربين متبارين باتوا اليوم نجـــــوماً، كانوا يقفون خائفين على المنصّة، فيما قائد الفرقة الموسيقية يتدخّل ليرفع معنوياتهم ويمدّهم «بجرعات» من الدعم الأبوي لمواجهة لجنة الحكم. فرفيق حبيقة كان دوماً الحاضن للمواهب اليافعة، و«رفيق» آخر الأسماء الأصيلة في مجال الأغنية الشعبية والفولكلورية والعربية البدوية، مثل طوني حنا وسميرة توفيق وصباح. وقبل ذلك أي قبل الحرب الأهلية، نستعيد تجاربه مع كبار فناني العصر الذهبي في مصر، ومسيرته الفنية مع الرحابنة وفيروز ووديع الصافي وعبد الوهاب وغيرهم...
كتب رفيق حبيقة الكثير من الألحان الشعبية، ووضع التوزيعات الموسيقيـــــــة التــــي لم ننتبه إليها وإلى قيمتها الفنية وجمال تلويناتها عندما كنّا صغاراً. فاذا بها تلفت مسامعنا من جديد عندما صرنا أكثر دقة في طريقة مقاربة الأغنية لنذهب أبعد من لحنها، ونسأل عن منمِّق التوزيع بعدما حفظنا النغمة الأساسية... ونتحسّر على انسحابه من الساحة «الفنية» باكراً. وإلى جانب عطاءاته الفنية، كان رفيق حبيقـــــة رئيس نقابة الفنانين قبل إحسان صادق.
هذه كانت حياة رفيق حبيقة التي قضاها في عالم الفن عزفاً وتأليفاً وتوزيعاً... وتدويناً! لمن دوَّن؟ تكاد تكون هذه التجربة المخفيّة في حياة رفيق حبيقة، من أشد المحطات تأثيراً في حياته على الصعيد الشخصي. إذ رافق عاصي الرحباني في سنوات مرضه التي سبقت رحيله، ودوَّن الألحان الأخيرة التي عجزت يَدا عاصي عن وضعها على السطور الموسيقية، ولم يعجز عقله الموسيقي عن خلقها حتى لحظة انطفائه عام 1986. رحل عازف الكمان، فاستعدنا برحيله أسماء كبيرة وعريقة، ومحطات من العصر الفني الذهبي اللبناني والعربي... وتقام مراسم الصلاة نفسه بعد ظهر اليوم في كنيسة مار مطانيوس للموارنة في الجميزة.