نادر صباغ
خارج مدينة صيدا قليلون هم الذين يعرفون بوظة «هدايا». واليوم انخفض كثيراً عدد الذين يعرفون بأمرها من أبناء المدينة.
بدأت قصة هذه البوظة كـ«مغامرة» عادية قبل أكثر من نصف قرن، وقد تحولت اليوم رمزاً من رموز التراث الشعبي المعاصر لصيدا القديمة.
منذ خمسين سنة والكثير من الصيداويين لا يعرفون في الصيف إلا «هدايا» مرادفةً للبوظة من ثلج. اليوم أصبح الطلب عليها تأكيداً لهوية صيداوية خاصة لدى جيل الشباب الذي سمع عنهـــــــا من الآبــــاء والجدّات.
عام 1958 أخذ الحاج نزيه النوّام المبادرة بشكل فردي، وأنشأ مع ولديه معملاً للبوظة في أحد أحياء صيدا القديمة، وسماه «هدايا» من دون أن يكون لهذه التسمية سبب معيّن أو قصة ما. اليوم يزيد عمر الحاج على السبعين، ومعمله لا يزال يعمل كما كانت حاله منذ نشأته الأولى.
لم تتح الإمكانات المادية المحدودة للنوام أن يطوّر صناعته، ولم يتقدم أحد لدعمه كي يتمكن من تحديث أدواته والاستمرار في عصر المصانع المُمكننة الضخمة التي يغزو إنتاجها الأسواق.
يبدو الرجل السبعيني يائساً من آفاق صنعته، فأولاده غير متحمّسين كثيراً لمواصلة مشوار والدهم، إذ إن الظروف الاقتصادية الخانقة لا تسمح لهم بالأمل بمستقبل زاهٍ. كل ما يتمناه الحاج هو أن يغطي المبيع كلفة الإنتاج فحسب، ويقول متحسّراً «لم أعد أريدها مصلحة والأولاد لا يحبونها».
تنحصر أنواع البوظة التي ينتجها المعمل بنوعين فقط، بوظة من ثلج بطعمات محدودة يجري تحضيرها من نكهات توجد أصلاً في السوق المحلية، ونوع آخر من شوكولا وحليب وفستق. أما الأسعار فهي 250 ليرة للنوع الأول و500 للثاني.
لا يشتغل معمل النوام إلا في موسم الحرّ، أي أشهر الصيف الثلاثة فقط، وينتج يومياً ما بين 2000 إلى 4000 حبة حسب الطلب. أما التوزيع فيتم على الأقدام أو عبر دراجة هوائية للمحال ضمن صيدا القديمة وبعض الأحياء القريبة وذلك «إذا فاقت الطلبية 100 أو 150 حبة»، أما من يريدها في ضواحي المدينة فعليه أن يحضر لجلبها.
في الشتاء كان النوام، حين كانت صحته تسمح بذلك، يغيّر مهنته. كان ينتقل لبيع الحلويات التي يصنّعها أيضاً كالسمسمية والبندقية والجزرية على مدخل أحد مساجد صيدا القديمة، فبيع البوظة مهنة موسمية تحتاج إلى داعم.
«السهلة تتغير وهي على وشك الانتهاء» يقول النوام في إشارة إلى التغيرات التي تطرأ على صيدا القديمة وتطال كل الموروثات الثقافية والسلوكية المتعلقة بنمط حياة ساكني تلك المنطقة.
صيدا القديمة كما عرفها الحاج تغيرت، وتغير معها الكثير من الأمور، وكأنه لم يعد هناك من مكان لبوظته في ظل تلك المتغيرات.
منذ أن بات التعاطي مع صيدا القديمة كمنتجع سياحي أُعيد نبشه من التاريخ والبلدة القديمة تفقد الكثير من بساطتها الساحرة التي ميّزتها لسنوات طويلة، ويبدو أن بوظة «هدايا» واحدة من تلك الأشياء السائرة نحو الاندثار.