خالد صاغيّة
في الشارع الأكثر حياة في مدينة طرابلس، ابتدع الشباب صيغة «الكزدورة» منذ سنين طويلة، تعويضاً عن غياب المقاهي والمساحات العامّة وأماكن الاختلاط. كزدورة داخل سيّارات تذرع الشارع نفسه ذهاباً وإياباً، الأمر الذي يخلق عجقة سير متعمّدة، تسمح بإلقاء التحيّات من خلف الزجاج، أو بالتعرّف عن بعد إلى فتيان وفتيات التحقوا حديثاً بهذه المواكب السيّارة.
مع نهاية الحرب، عادت المقاهي إلى المدينة. وأنشئ معظمها في هذا الشارع بالذات. وحافظت الكزدورة على حضورها، إذ صارت أقوى من الأسباب التي أدّت إلى ظهورها.
اللافت أنّ غالبية السيارات ما كانت تحتوي إلا على سائقها. فقد نما نوع من التسلية الفردية في مجتمع شديد الانغلاق على نفسه، وفي ظلّ غياب تامّ لجمعيات وهيئات تملك ما يكفي من الحوافز لجذب الشباب ودفعهم إلى القيام معاً بأعمال تتطلّب جهداً جماعياً.
لكنّ شباب الكزدورة، ومن داخل سيّاراتهم، كانوا يلمحون في الشارع نفسه «بلكوناً» يعجّ بفتيان وفتيات من أعمارهم، يقفون على الشرفة يتحدّثون في ما بينهم، ثمّ يدخلون ويخرجون في حركة سريعة. كانوا يقدّمون النموذج المختلف لجهة البسمات المرتسمة على وجوههم، ولباسهم غير المتصنّع، الذي غالباً ما كان يحمل إشارة صليب بلون أحمر.
لا بدّ أنّ شرفة مركز الصليب الأحمر في طرابلس خالية هذه الأيّام. لا بدّ أنّ الشباب قد هجروها إلى أطراف المخيّم حيث يسيل دم كثير، لم ينجُ منه البلكون نفسه.