نادر صباغ
لم يسمح لهلال عكرة حتى أن يحلم بعمل يستقر فيه ما بقي من عمرهلم يُتَح أمامه المجال كي يطمح لتحقيق «مشروع» بحجم مقدراته المالية البسيطة. منذ أكثر من 17 عاماً وهو يلعب لعبة «القط والفأر» مع الأجهزة الأمنية والإدارات الرسمية اللبنانية على اختلافها، والسبب «كوخ» صغير لا تتعدى مساحته متراً مربعاً واحداً على أرض جزيرة صيدا المعروفة بـ«الزيرة». كوخ يرضى عكرة أن يستبدله بمظلة تقيه شمس الصيف الحارقة، مقابل أن يترك وحيداً ليسترزق أشهراً معدودات. كل ما يرجوه هو أن يُسمح له بنثر بعض الكراسي والطاولات لخدمة روّاد الجزيرة القلائل، لكنه ممنوع من ذلك من دون مبرر مقنع. حاول «شرعنة» وجوده، لكن البيروقراطية الإدارية كانت أعقد من بساطة ذلك الصيداوي وعفويته. بين لامبالاة وزارة النقل (التي تتبع لها الأملاك البحرية) وتقاعس بلدية صيدا الفاضح وعدم الاكتراث الجدّي لدى سياسيّي المدينة وفاعلياتها تضيع قصة «الزيرة» ومعها قصة عكرة. قصة جزيرة روّادها محرومون أن يتمتعوا بها، فقط لأن غالبيتهم من الفقراء. لا تحتلّ «الزيرة» في الثقافة الصيداوية العامة إلا مكانة دونية من الناحية الجمالية تنعكس بصورة واضحة عند جيل الشباب في المدينة ولا سيما الميسور منه. بالنسبة إليهم هي مكان لم ولن ينظف يوماً، ويفتقر إلى أبسط مقومات النجاح السياحي، وبالتالي توفر مسابح الجية والرميلة ما يطمحون إليه. لا يعرف الصيداويون لماذا على جزيرتهم أن تبقى قفراً صخرياً بائساً تتقاسم أرجاؤه القليلة الصالحة للجلوس أجساد الناس والقاذورات والروائح النتنة. لا يحتاج الأمر إلى الكثير، فقليل من «الفطنة» وتتغير الحال نحو الأحسن. هي المتنفّس الوحيد الباقي أمام الصيداويين الراغبين في السباحة في البحر. فشاطىء المدينة الممتد من نهر الأولي شمالاً حتى نهر سينيق جنوباً يعدّ، بحسب دراسة بيئية وضعت بعد حرب تموز، من أكثر المناطق اللبنانية تلوّثاً. أسباب ذلك عديدة أبرزها تركّز مصبّات الصرف الصحي للمدينة في هذه الرقعة الجغرافية الضيقة، والانهيارات التي تحصل دورياً في جبل النفايات المتربّع على أطرافها الذي وصل إنتاجه حتى قبرص.
كثر الكلام منذ سنوات على مشاريع سياحية ضخمة ستُقام على أرض الجزيرة. تحدّث البعض عن مستثمرين سيحوّلونها منتجعاً سياحياً خلّاباً. فجأة انتهى كل شيء كما بدأ، مجرد كلام. منذ نحو شهرين جرى تداول أخبار عن إطلاق مشروع «إنماء وتطوير مرفأ الصيادين وقطاع البحر في صيدا»، وكما هي الحال في مثل هذه المشاريع أُلّفت لجنة للمتابعة ضمّت ممثلين عن الهيئات والقطاعات ذات العلاقة. قيل إن اللجنة باشرت عملها بالفعل بإجراء مسح لواقع ميناء الصيادين واحتياجات العاملين في قطاع البحر، وانتهت الى وضع تقرير مفصّل عن هذه الاحتياجات ومقترحات في شأنها على أن يعمد إلى تنفيذها في أسرع وقت. جاء الصيف. لم يلمس الصيداويون أي تغيير في واقع جزيرتهم. بقيت «الزيرة» خاوية من أي شيء، حتى من سلة نفايات واحدة، وبقي عكرة وحيداً عليها يصارع «المتربّصين» به من أجل البقاء، كما يصارع المرض الخبيث الذي أصابه أخيراً، وأمله أن يموت عليها.