strong> عبير قبيسي
عند تقاطع فردان ــــ الصنائع في بيروت، يجلس الشاب الأشقر، يحمل الساكسوفون، يرفعه إلى فمه، ويبدأ عزفاً يستمر ساعات.
يأتي عادة بعد الظهر، يغيب أياماً ثم يطل فجأةً، يغمض عينيه ويطلق العنان للموسيقى، يتمايل على نغماته. يركن ظهره إلى الغيتار العملاق الذي ما زال ينتصب «دعاية» لقهوة الهارد روك كافيه التي أقفلت منذ حقبة خلت ــــ وهذه عادة سيئة شائعة في بلادنا، تأفل الأشياء وتبقى أطلالها شارات ترشدنا إليها. اسمه غبريال نادا، والكل يناديه عازف الساكسوفون، هذا الأميركي هجر بلاد العم سام، يعلن انحيازه للموسيقى، ويحلو له أن يروي كيف تعلم اللغة العربية من دون أستاذ، وذلك بعدما اكتشف «كم تتناغم مع موسيقاه».
غادر الولايات المتحدة الأميركية قبل خمس سنوات، وكانت مصر وجهته الأولى، بحث عن أرض الفراعنة التي حفظ حكاياها من صديق مصري، ثم تنقّل بين الأردن وسوريا وإثيوبيا ودول أوروبية، واستقر أخيراً في لبنان.
نشأ في كنف عائلة أميركية محافظة، ولما تخرج من الجامعة اكتشف زيف الأفكار والصور النمطية التي تربّى عليها، وراح يبحث عن «حقيقة» العالم وعن «ذلك الآخر».
يشعر من يسمعه بأنه يحلق على درجات نغماته التي تنساب مترنحة صعوداً. المارّون قرب مبنى الكونكورد يسترقون السمع إليه، وقد لا يتنبّهون إلى علبة «الساكس» التي تركها مفتوحة لمن تكرمت نفسه عليه ببعض النقود. الشارع هو محترفه، على أرصفة شارع الحمراء يقيم جلسات التدرّب على العزف، فهو يكره الأمكنة المغلقة، ويشعر براحة في الساحات الممتلئة بالناس.
قد يمر وقت طويل لا يحيي خلاله غبريال أي حفلة، لذلك يساعده العزف في الشارع على كسب بعض المال.
هو يدرك جيداً أن البعض لا يفهم خياره. تختلف نظرات الناس إليه وتراوح ما بين المتشكك بعقلانيته، أو المستخف بشخصه، أو الهازئ منه، أو الحاسد لمستوى «الرواق» الذي ارتقت إليه طباعه...على اعتبار أنه شخص أجنبي!!! المتشكك بعقلانيته يرى نفسه عاقلاً أسمى من أن يُستعرَض ويكون «فرجة». والهازئ منه أو المستخف به يحس «بتفوق» غبي لطالما امتازت به نفوس شعوب العالم الثالث كسلاح لمواجهة الاعتراف «بالدونية» في بعض المواقف (على كثرتها). الحاسد له هو ذلك المتحسر على ندرة راحة البال في الأوقات العصيبة في بلد شعر بعض أبنائه بأن الحرب الأهلية قد تكون على الأبواب، فيما غبريال غير عابئ بشوؤن السياسة يقف ليعزف الساكس على تلك الناصية!!! «شو رواق»...
غبريال ودود و يحب التحدث إلى الآخرين، يخبر من يسأله بأنه عزف الموسيقى من قبلُ في شارع الحمراء. وقد يذهب إلى كورنيش البحر رغم أنه تعرض لمضايقات عند المنارة، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي ترتفع لتشوش على الموسيقى.
«سر» آخر يفشي به غبريال لسائله، اسمه الأصلي ماثيو فوستر، لكنه يوم اختار بلاداً جديدة قرر أن يكون غبريال أما «نادا» فهي كلمة إسبانية ومعناها «لا شيء».