بلال عبود
ينتظر الحاج «أبو علي» الباص الـــــرقم 5 الذي يأخذه من الكولا إلى برج البراجنة حيث يسكن منذ كان موظفاً في مطار بيروت.
منذ تقاعد أبو علي تغير نظام حياته، فهو يمضي أيامه بين بيروت وبعلبك. ويمضي في الباص الكثير من وقته.
يجلس الرجل العجوز قرب أحد الشباب، ويبدأ حديثاً معه بأسلوبه المميز ولهجته البعلبكية. الكل يصغي إلــيـه دون تأفف أو ضجر، فالرجل يملك الكثير من الذكريات والطرائف والأخبار التي عايشها وشارك فيها.
يبدأ حديثه بأنه «على الهوية هو مواليد 1926، وذلك على ذمة الشيخ في بلدتنا، ففي أيامنا كان تسجيل المواليد بيد شيخ الضـــيعة، وكان هذا الأخـــير يتأخر شهوراً أو سنوات ليذهــب إلى دائرة النفوس، فيزيد عمر بعض أبناء البلدة أو يقصره على هواه»، ثم ينتقل أبو علي في الحديث عن أيام عمله في المطار، ويؤكد أنه شاهد على الاعتداء الإسرائيلي عليه «في أواخر الستينيات من القـــرن الماضي» كـــمـــا يؤرّخ لها الــــرجــــل الذي «لم يتغيب يوماً عن العمل».
ينتقد الحاج طريقة سائق الحافلة، ثم يقدم للجالس قربه نصائح في أمور الحياة، وهو وحده له الحق في النصح لأنه طوال سنواته الـ 81 لم يقترب من القمار أو السرقة، وكان دائما باراً بوالديه، يكمل نصائحه بمرارة لأن اليوم النصيحة «ببلاش، لكن لا أحد يستمع. لا ينصتون إلا إلى رجال السياسة أو الـ«مصروعة» التي تغني»، ويتحسر على طرب أيام زمان.
ويضيف: «إن لباس شباب هذا العصر مخيف، لا تفرق الشاب عن البنت»، ويتحول بعد ذلك «إلى صلب كل المواضيع» أي حديث الكوفية و«العقال» ويذكر أنهما «من تراثنا ودليل ارتباطنا بالوطن والأرض، والكوفية أنواع ومصادرها متعدة: سعودية أو أردنية أو غيرها».
المعتادون على الانتقال بالباص الرقم 5 يعرفون «أبو علي» جيداً، ويعرفون قصصه. وجهه الأسمر الذي حفرت فيه سنوات الشقاء خطوطها مألوف لديهم، وهم يحفظون أخباره، ويبتسمون لنصائحه، ويعرفون أن أي راكب جديد قد يكون «صيداً» لأبو علي، فإذا جلس الراكب المجهول قربه سيقوم العجوز بتوجيه النصح والوعظ له مستشهداً بخبرته وسنوات عمره الطويلة، ثم يشكر الله على «ذاكرته» التي تخوله أن يحفظ الكثير من الأحداث والتواريخ، وهو يجادل ويناقش في أي موضوع سياسي أو اجتماعي أو فني.
يبتسم الحاج مــــــــودعاً من كان بـــــجانبه ويدعو له بالتوفيق على أمل اللقاء مرة أخرى.
وحين يترجّل أبو علي من الباص يتنبه الركاب الآخرين إلى أنهم حتى الآن لا يعرفون سر الكيس الغريب الذي يحمله دائماً (وهو مصنوع من الخيش)، فهو شيء خاص به لا يتحدث عنه.