جوان فرشخ بجالي
أخيراً عُرف سر سقوط مدينة صور على أيدي جيوش الإسكندر المقدوني عام 332 قبل الميلاد، وتبين أن التغير في مستوى البحر وتحرك الرمال هما العاملان اللذان أسهما في سقوط المدينة. وهذه المعركة هي الأهم تاريخياً، فبحسب المؤرخين أن الإسكندر المقدوني أمر بهدم المدينة البرية وباستعمال حجارتها لخلق ممر لجيوشه يصله بالمدينة البحرية. فقد كانت صور في تلك الفترة مؤلفة من مدينتين، إحداهما على اليابسة، والثانية على جزيرة لا تبعد كثيراً عنها. وعندما تقع الحروب كان سكان المدينة البرية يلجأون إلى المدينة البحرية التي تقفل أبوابها وتفتح مرافئها المطلة على المتوسط، فتستحيل محاصرتها.
الإسكندر المقدوني أبقى حصاراً بحرياً على المدينة لمدة تسعة أشهر، ولم يستطع أن يربح المعركة ضدها، حتى ردم البحر ودق المشاة من جيوشه أبواب المدينة الصامدة، وفي الوقت نفسه هاجمتها أساطيله البحرية، فقاومت صور إلى أن دخلها الإسكندر وقتل كل من بقي حياً من الرجال وأخذ النساء والأطفال عبيداً.
لكن كيف استطاع المهندسون في حملة الإسكندر ردم ما يزيد على الكيلومتر الواحد من المياه التي يصل عمقها إلى ستة أمتار؟ للإجابة عن هذا السؤال كان لا بد من إجراء دراسة جيولوجية تفصيلية لأنواع التربة والتراكمات على شاطئ صور. وهذا ما قام به فريق علمي من جامعة ايكس مارسيليا الفرنسية. أخذ الفريق عيِّنات من تربة الأرض التي تصل صور البحرية بصور البرية، من خلال إدخال أنبوب معدني في جوف الأرض على عمق عشرات الأمتار (أي طريقة دق الآبار الارتوازية). ودرس الباحثون الفرنسيون هذه العينات واستخدموا الحاسوب لإعادة تكوينها. وشرح العالم كريستوف مورانج نتيجة أبحاث بعثته في صور، في مقالة نشرتها مجلة الأكاديمية العلمية الجيولوجية، مؤكداً أن «جزيرة صور، قبل أن يأهلها سكانها، أدت دوراً أساسياً وطبيعياً في صد الرياح ومنع تراكم الرمال على سواحلها. لكن تطور الزراعة على أرضها في بداية العصر البرونزي (3000 ق.م.) واقتلاع الأشجار التي كانت تغطي ساحلها، غيّرا هذه المعطيات، فبدأت الرمال تتراكم بين الجزيرة والساحل، وخاصة أنه بعد عام 4000 ق.م بدأت الأرض تشهد تباطؤاً في ارتفاع مستوى البحر. وحينما وصلت جيوش الإسكندر المقدوني إلى المدينة، كان هناك «خط» رملي يصل المدينتين ببعضهما ويقع على عمق يتراوح بين متر ومترين». وبحسب مورانج، فإن بحارة المدينة وصياديها كانوا يعرفون بهذا الخط الرملي ويستعملونه في الصيد وركن مراكبهم. وعرف به أيضاً المهندسون المرافقون للإسكندر المقدوني، فاستعملوه وحدلوا الردم على مستواه بعد أن درسوا تحرك الرمال والرياح لكي لا تفشل الخطة ويضيع الردم في عمق البحر. ويؤكد مورانج في دراسته أن ردم البحر في صور أعطى مهندسي الإسكندر المقدوني خبرة كبيرة في تعاملهم مع مدن البحر المتوسط الساحلية، إذ «أعادوا استعمال التقنية هذه في معركتهم ضد الإسكندرية لاحتلال منارتها». والجدير بالذكر أن عملية الردم هذه لا تزال تتفاعل حتى يومنا هذا. فممر جيوش الإسكندر غيَّر مجرى الموج وحركة الرمال حول شاطئ صور رغم أنه لم يعد ظاهراً للعيان.