محمد شعير
أغنية سعاد حسني “الدنيا ربيع” تؤذن ببدء الربيع في مصر، ولا يعترف أحفاد الفراعنة بهذا الفصل إلاّ عندما يبدأ التلفزيون الرسمي ببثّ الأغنية بكثافة، وتطلق المحطات تحذيرات أمنية وصحية داعية إلى عدم تناول الفسيخ أي الوجبة المفضلة لدى المصريين في عيد شم النسيم. التحذيرات لم تنفع أمس أيضاًوقد احتفل المصريون بالمناسبة كما فعلوا العام الماضي والذي سبقه، وكان سكان القاهرة يعلنون صراحة أنهم ملّوا تحذيرات الحكومة المستمرة من تناول “السمك المملّح”، ويقولون: “يا عم الناس إتشلت من زمان من غير فسيخ ولا بتاع”. كل الناس أكل الفسيخ خلال وجبة الغذاء، الكل أي الأغنياء والفقراء. ولكن طريقة الاحتفال بالعيد اختلفت. توجّه الأغنياء إلى منتجعات بعيدة من تلوّث القاهرة، أو حضروا حفلات المطربين في أغلى الفنادق.
أما الفقراء فقد كانت حديقة الحيوان وشاطئ النيل والحدائق العامة ملاذهم.
وفيما أكدت إدارات دور العرض السينمائي أن الحجوزات اكتملت قبل أيام، أعلنت المستشفيات حالات الطوارئ. طقوس الاحتفال بشم النسيم متشابهة في كل مصر، ووحدها بور سعيد تشكل الاستثناء، فلاحتفالاتها طابع كرنفالي شعبي، يخرج خلالها السكان في طقس جماعي وفي أيديهم دمى “اللنبي” الذي كان مندوباً سامياً للاحتلال البريطاني في مصر، وقد طوّر أبناء المدينة الدمى لتمثل شخصيات سياسية يُجمع أبناء المدينة على كرهها، لذلك منعت الحكومة المصرية هذه الاحتفالات طوال سنوات التسعينيات، ولكنها عادت مرة أخرى العام الماضي فكثرت الدمى التي مثّلت الرئيس الأميركي جورج بوش، واستمتع المحتفلون بإحراقها. يكاد عيد شم النسيم يكون العيد الوحيد الذى يحتفل به المصريون باختلاف طبقاتهم ومعتقداتهم، فهو ليس عيداً دينياً، أو سياسياً، بل تم توارثه من مصر الفرعونية. ويعتبره المؤرخون أقدم احتفال شعبي عرفه التاريخ بدايةً من قدماء المصريين. وكانت طقوس الاحتفال به ترمز إلى بعث الحياة.
وترجع بداية الاحتفال بهذا العيد الى ما يقرب من خمسة آلاف سنة، أي نحو عام 2700 قبل الميلاد، أي في أواخر عصر الأسرة الثالثة الفرعونية. تسمية “شم النسيم” من الكلمة الفرعونية “شمو”، وهي كلمة هيروغليفية قديمة كانت ترمز عند قدماء المصريين الى بعث الحياة، وكان المصريون يعتقدون أن ذلك اليوم هو أول الزمان. وقد تعرّض الاسم للتحريف على مر العصور، وأُضيفت إليه كلمة “النسيم” لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو، وطيب النسيم، والاحتفال بالعيد من خلال الخروج الى الحدائق والمتنزهات والاستمتاع بجمال الطبيعة. وكان القدماء المصريون ينقشون على البيض دعواتهم وأمنياتهم للعام الجديد، ويضعون البيض في سلال من سعف النخيل يعلّقونها في شرفات المنازل أو في أغصان الأشجار، وقد تطورت هذه النقوش في ما بعد لتصبح لوناً من الزخرفة الجميلة والتلوين البديع للبيض في العصر الحديث.
أما الفسيخ فقد ظهر بين الأطعمة التقليدية في خلال الاحتفال بالعيد في عهد الأسرة الخامسة الفرعونية، مع بدء الاهتمام بتقديس النيل، وقد أظهر المصريون القدماء براعة شديدة في حفظ الأسماك وتجفيفها وصناعة الفسيخ.