ليال حداد
تجلس أم زياد أمام منزلها في منطقة الجعيتاوي في الأشرفية. تبدو آثار سنواتها الخمسة والسبعين واضحة في التجاعيد التي غطت وجهها. يتجمهر حولها الأولاد وتبدأ بإخبار إحدى قصصها. هذه المرة ستحدثهم عن المجاعة التي عاشتها عائلتها في الحرب العالمية الأولى. الكل هنا يعلم أنها كانت طفلة صغيرة يومها، وأن أخبارها مستقاة من «خبريات» أهلها ومن مخيلتها، لكنهم لا يعرفون أن هذه المرأة العجوز كانت صبية جميلة وأن اسمها نجلاء هاشم.
«أثناء الحرب الأولى طلب الأتراك من والدي أن يبيعهم كل المحصول الزراعي، وافق لكنهم لم يدفعوا له»، وتضيف بعد نوبة سعال سببها سيجاراتها التي لا تنطفئ: «مات إخوتي الأربعة بعد أن تهجرنا من بيتنا وبقيت أنا وشقيقتي روز وأخي جرجي».
أم زياد تحولت منذ ما يزيد على عشرين سنة إلى ما يشبه «موسوعة التاريخ»، من الحرب العالمية الأولى إلى الحرب الثانية مرفقة بالاستعمار الفرنسي والحرب الأهلية اللبنانية، كلها حقبات عاشتها العجوز وترويها للأولاد والشباب.
«كلهم مثل أولادي رغم أني لم أتزوج، وأنا أتسلى عندما أتحدث معهم، وأحب أن أتذكر أيام الماضي، وعندما يصبح الإنسان في مثل عمري لا يبقى له سوى الماضي ليتذكره». تقطع حديثها لتشرب قهوتها وتكمل سيجارتها، ثم تؤكد أنها اختارت بنفسها لقب أم زياد ليحل محل اسمها.
لا تخجل العجوز من التطرق إلى حياتها العاطفية، وتقول إنها «في أيام الاستعمار أحبت جندياً فرنسياً، إلا أن حبهما سبب لها المشاكل، لأنه كان محتلاً لأرضنا، وهو أمر ممنوع. لذلك قطعت علاقتها به ومن يومها لم تعش قصة حب أخرى».
تقسّم أم زياد أحاديثها مع الأولاد على مراحل، فهي تبدأ منذ الحرب الأولى لتنتهي بعدوان تموز الذي لا تفهم شيئاً من أسبابه ولم تتابع تفاصيله، إلا أنها تحب أن تضيفها إلى الحروب التي عايشتها: «أنا أعلم أن إسرائيل كانت تقصف الجنوب والضاحية، إلا أنني لا أعرف شيئاً آخر عن هذه الحرب».
تفخر أم زياد بحادثة وقعت أخيراً، فقد ذكرها أولاد من الجعيتاوي في امتحان مادة التاريخ، وردوا على سؤال عن الاستقلال اللبناني بأن تظاهرات عديدة تمت في بيروت وشاركت فيها أم زياد وصديقاتها وأدت إلى الإفراج عن المسؤولين اللبنانيين المعتقلين وإعلان الاستقلال.
الأطفال لم يكذبوا، لقد كتبوا ما حكته أم زياد وهي تمازحهم، وقالت ضاحكة إنها هي التي بادرت بالنزول إلى الشارع، وإن تظاهراتها أعطت الاستقلال للبنان.
تشعر العجوز بغصة وهي تتذكر الماضي «اليوم اللي بروح ما بيرجع متلو»، حياتها مليئة بالقصص والروايات، تحكي عن الآخرين، وتحكي حياتها لتتسلى وتحارب الوحدة، ويبدو أنها لا تزال حزينة لأنها لم تتزوج ولم تنجب ولداً، وتردد أنها كانت تحلم بأن يكون لها صبي لتسميه «زياد». لكنها تبدي عاطفة كبيرة تجاه الصغار الذين يتحلقون حولها كل يوم ليسمعوا قصصها ويحفظوا منها ــــــ لا من كتبهم ــــــ حوادث من التاريخ الحديث.