رلى راشد
لم يهوَ مارك روبرتسون الفنيّ الكهربائي يوماً جمع التحف، ولم تؤرقه تأويلات الفن التشكيلي، لكنه احتفظ في عتمة عليّة منزله، خلال أكثر من ثلاثة عقود، ببعض مُقتنيات الرسّام الإيرلندي ــ البريطاني فرانسيس بايكون والتي تقدّر بنحو 70 ألف يورو.
حفنة من الأشخاص فقط نالوا حتى الساعة ترف تأمّل البورتريهات المقطوعة الرأس والرسائل والصور الفوتوغرافية والبرقيّات والمخطوطات والشيكات المُذيّلة بتوقيع الرسّام التي ستعرض في مزاد علني في نيسان المقبل في إنكلترا. سيجني الرجل الذي تقاعد حديثاً مردوداً يمكّنه من إطالة أمد بطالته الوافرة. وهو قد استحق قدره “الزهري” بشتى المعايير بعدما جنّب “مجموعة بايكون” قبل سنوات قدرها الكئيب المُحتّم أي الاستقرار في المهملات.
كان روبرتسون نديم فرانسيس بايكون، المولود في دبلن في بداية القرن الماضي. ارتادا معاً الحانات اللندنيّة، كما في ذلك اليوم من سبعينيات القرن الماضي حيث كانا يحتسيان البيرة لحظة علم بايكون بأن عمّال الصيانة (الذين تعاقد معهم روبرتسون لينجزوا تصليحات في محترف الرسّام اللندني) قد “دنّسوا” بأقدامهم لوحاته. ففي صومعته “البابليّة” الذائعة الصيت بفوضاها العارمة، بعثر بايكون لوحاته أرضاً فيما عرّى الجدران إلاّ من صور فوتوغرافية شكّلت مصدر إلهامه. اشتاظ بايكون غضباً بسبب هذا التعدّي ليقرّر في احتدام نوبة غيظه نزع “أبوّته” عن كل ما احتوته صومعته والتخلّص منها. يُشبه هذا التصرف، حدّ التماهي، بايكون الشديد التطلّب تجاه نفسه والذي أجهز في شبابه على جزء من لوحات بداياته لأنها لم تُرضه فحسب. كان روبرتسون أقلّ انفعالاً، حاول تهدئة روع صديقه وحفّزه على إهدائه هذه المُقتنيات التي حمّل منها روبرتسون ما استطاع في ثلاثة أكياس نفايات! تضمّنت “قاذورات” بايكون ثلاثة بورتريهات زيتيّة وأربعة بورتريهات “مبتورة” تلائم مزاج الفنان في تهشيم لوحاته، ناهيك بملاحظات بخطّ يد بايكون تؤكّد موعداً مع أوكتافيو باث وأخرى تقصّ أساه العاطفي.
تروي هذه المقتنيات بايكون كاملاً: رساماً استنبط الحيواني من الإنساني وسَطت ريشته على الشكل الآدمي ليَخرج مكسوراً ومشوّهاً أو وجهاً ملطّخاًً يحتفظ بالكاد بمعالمه. أظهر بايكون عالماً يستوطنه أشخاص لا يحظون سوى بالألم والهلاك، عالماً محكوماً بثنائية السيطرة والنهم الذي لا يرتوي.
في ذاك اليوم، لم يتيقّن بايكون أن قاذوراته ثروة لا تقدّر على خلاف بابلو بيكاسو الذي نسج معه بايكون علاقة متعدّدة الأبعاد استعادتها آن بالداساري في “بايكون بيكاسو، حياة الصور”. لطالما اشتكى معاصرو بيكاسو من ارتفاع أسعار لوحاته وهو جابه الاعتراضات بسكينة ومتمسّكاً بأبسط مُقتنياته في موقف يتعارض مع طواعيّة بايكون في التخلّي عن كل ما امتلكه. وأوضح دليل على ذلك ما جرى مرّة للرسّام الإسباني خلال تناوله الغداء في مطعم، فعندما همّ بدفع الفاتورة بادره المالك بعرض قضى بإعفائه من ثمن وجبته في مقابل أن يترك له منديله حيث خربش بيكاسو رسماً في لحظات، فما كان من صاحب “غرنيكا” إلّا أن رفض بتهكّم “أظن أنه ينبغي لي دفع ثمن وجبتي لا شراء مطعمك!”