جوان فرشخ بجالي
غابات كثيفة قلّما تدخلها الشمس. حيوانات مفترسة وقبائل من الصيادين تعيش في طمأنينة. يتكلم أفرادها بلغتهم. يتزيّنون بحليهم. يأكلون الحيوانات المفترسة، ويتشاركون هموم الحياة وأفراحها. بهذه المشاهد يبدأ فيلم “أبوكاليبتو” للمخرج والممثل الأميركي ميل غيبسون، وتدور أحداثه في الفترة التي شهدت انهيار حضارة المايا في المكسيك. ويتولى البطولة في الفيلم ممثلون غير معروفين ينحدرون من سلالة المايا ويجيدون بالطبع التكلم بلغتها.
يلاحق المُشاهد الأحداث التي تصيب البطل “جاغوار باو” (يد النمر الأسود)، فهو كان يعيش مع عائلته في الغابة ثم اعتقلهم تاجر عبيد من أهل حضارة المايا، وجرهم عبر الجبال والوديان مدججاً بالأصفاد الى عاصمته ليقدمهم ضحية بشرية للآلهة.
وتبدأ مع هذه المغامرات صور عنيفة ودموية تظهر فيها تفاصيل قطع الأعناق والرؤوس طعناً بالخناجر وعمليات اغتصاب وتعذيب وقتل للنساء والأطفال. تصوّر بعض المشاهد عملية تقديم عبيد ضحايا بشرية لآلهة المايا. فتقتلع قلوبهم لينظر فيها الكاهن الأكبر متنبئاً بغضب الآلهة أو رضاها. ثم يُقطع رأس الضحية ويُرمى من أعلى الهرم الى الشعب الذي أصابته الهستيريا الجماعية من رؤية الدم والخوف من الكسوف الذي يحدث وهو نذير شؤم. وهنا يبدأ اللغط التاريخي في الفيلم. فحضارة المايا تتميز بدراساتها المفصلة والمعمقة لحركات النجوم. وكان كهنتها يحسبون الكسوف ويؤرخونه وينتظرونه بفرح. وتأخذ هندسة المعابد الماوية بعين الاعتبار حركات النجوم. ويرتسم في المعبد الأكبر ثعبان صاعد على أدراجه حينما يحدث كسوف الشمس. يقدم “أبوكاليبتو” حضارة المايا دموية وعنيفة وجاهلة، يخاف أهلها الكسوف ويذبحون البشر. ثم يأتي بـ“الفاتح” الإسباني بصورة رجل الدين المسالم الذي يصل الأرض ليعرفها على “الحضارة”. وهنا تكمن خطورة «أبوكاليبتو». فلم يتنبه غيبسون إلى أن وصول المغامرين الإسبان الذين غزوا أميركا اللاتينية كان في القرن السادس عشر أي بعد مرور 500 عام على هجر الماياويين لمدنهم ومعابدهم. في حضارة المايا كان النبلاء والمحاربون فقط يقدمون كذبائح، هذا إضافة إلى أن مشهد «المذبحة الجماعية” للعبيد مختلق ولم يكن من العادات الرائجة لدى حضارة المايا بل لدى حضارة الازتيك. كما أن مشهد المذبحة مستوحى من كتاب الأطفال “Tintin, le temple du soleil” حيث جرت مغامرة تا تان عند أبناء حضارة الانكا. جمع ميل غيبسون تقاليد الحضارات الثلاث في مشهد واحد واختصرها بالذبائح البشرية.
ارتكاب الأخطاء التاريخية عادة في هوليوود، فنادرة هي الأفلام التي لا تحوّر مجريات الأحداث للتوافق مع مبادئ شركات الإنتاج. ولكن التحوير والكذب الذي يعتمده فيلم «أبوكاليبتو” يصب في خانة الترويج لمبادئ ميل غيبسون الشخصية. وهو من المتعصبين جداً للكنيسة الكاثوليكية. ويعتقد أن “الفاتح” الإسباني الذي استعبد شعوب القارة ودمر معابدها وآثار حضارتها، وأجبرها على اعتناق الديانة المسيحية قام بكل ذلك لخير هذه الشعوب “تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى حرب العراق اليوم”، فغيبسون كان قد صرح بأن الفيلم مستوحى من أحداث تلك الحرب.