أنسي الحاج
الشارع حائط نائم، يفصل بين المشاة والوقوع.
كيفما جئتَ إليه يلاقيك. اليوم حَشْر وغداً عيد. أمس حَشْد يرفع القبضات واليوم جموع مُحَنَّنَة بأشواقها. لا يهمّ الاسم. الشارع بَحْرُ البراري.
وهو ليس على الحياد بل على سرير القَدَر.

لا يُخْبرنا الشارع بما يعرف، وهذا هو لغزه الشهيّ. نخبره، نحن، ولا يقاطعنا بالمحاورة، بل يُرخي لنا حتى لَنتبخَّر. عندئذ يفتح فراغ صدرنا ويفتح عيوننا جديدة على لحظة، هي تلك التي كان يمكن أن تُؤْسَر، اللحظة الكاملة، غير المعرَّضَة للنقد، ذات الوَمْض الأبدي.
أصوات غامضة تُدندن في خفاء الشارع العلنيّ، تحيط بأسماع القلب إحاطة الإشاعات.
الشارع ليس طريقاً بل هواء. وَعْدٌ بأن لا يعرفكَ أحد أثناء مباذلك. حريّة الفقير وحمّام الغني. المنزل هو الحاجة والشارع هو الفنّ. انزلي إلى الشارع حتى أراكِ. أستعرضي الجماهير حتّى أسمعكِ. حتّى على هواي، حتّى بإفراط وحسرة، ونسبح في البحر الأغبر. لا قطعان هنا بل نجوم. كل واحد ظلّه شمس. الشارع غصّة المشاهير، غالباً يضحك من أسمائه. رئيس الشيوخ عمره عشرون. يسافر، الهادئ الطويل، وأقرب الرفاق إليه الهاربون من المدارس. الشارع ينام عندما تدوسه التظاهرة كما ينام الحوت عندما يمشي امرؤ فوقه. ينطوي كسجّاد الصيف. يرتدي تمساحه ويَنْشب جليده. الشارع يُفْرز الحنين كما تُفرز اللامبالاة التحدّي. أيّها العاشق المستوحد اهرع إلى هدير الشارع. أيّها الشاعر المرتجف، الشارع يَخْتُ الشعراء.

عرفنا الشارع نادياً حرّاً للأجناس، ملتقى المجاهل، منتزه الجيوب الفارغة والأرواح التائهة، مركب الخيال نحو ما يطعمه فيغذّيه أو يجوّعه فيغذّيه. شارع العيون الجائعة والأنوف المرتعشة لجوع الأيدي والعيون. شارع التبغ والنشّالين، خزنة الفضائح وكرسي الاعتراف. عاصمة الخادمات المُحْلوّات بغَزَل الزعران. طريق الصبايا اللواتي لا يمكن لقاؤهن بهذا الاستعداد إلاّ لحظة الشارع.
هناك شارع آخر، للضرب والدماء. شارع لعنف الشهوة وآخر لعنف العنف. واحد لمغناطيس التلامس وواحد لسكين السَلْخ.
“سينزلون إلى الشارع سينزلون إلى الشارع!”. لماذا يكون الشارع دوماً تحت والمتظاهرون فوق؟
بلاد لم يعد اسم فيها يعني معناه. المجتمع مجلس عزاء. العزاء مجلس اجتماعي. السيارات توابيت. التوابيت سيّارات. الوطن كابوس. الكابوس وطن. الصحف أوراق نعي. أوراق النعي إشعار بالوصول. التلفزيون حوانيت لتوزيع اليأس مجّاناً. اليأس تَرَف الناجين من الهجرة والموت. الشارع مخيف. الخوف شرعي. لا أحد يسمّي شيئاً باسمه. فقط بنصف اسمه. النصف الثاني مبلوع.
ومع هذا، الشارع شكل من أشكال الحريّة، الحريّة هي هذه أيّها الخائبون. الحريّة هي هذه أيّها المُنْشِدون. سَكْرة لك وسَكْرة عليك. الحريّة لعوب لا تذهب حتّى النهاية مع واحد فقط. التهديد جزء منها. ما من أمانٍ بعد الولادة.

“أولاد شارع، بنات شارع”، عبارة لا أفهمها إساءة. أَستنشقُ منها رائحة الانطلاق المزدحم بأحلامه، وأستشفُّ صُوَر الكثرة، الكثرة السهلة، الطيّعة الهيّنة الجَرْف، الهيّنُ الانجراف معها، المعقوصة بتوابل التنوّع وحفافي المجهول، الكثرة ذات العناقيد المتدليّة خارج السور، ذات الاحتمالات المدرارة. أبناء الشارع للريح والشمس والمقاعد التي لا تَسْكُن قاعديها. بنات الشارع وَرْد جوريّ وألحان منفلتة من عقالها، واثبة في فضاء متآلف مع الكواسر والضواري، لا يخاف ولا يخيف بل ينشر الضحك والشجاعة، وَرْد جوري أسراره تتوالد في الهواء الطَلْق، أسرار العَلَن العارية تحت فساتينها، الأشدّ جاذبيّة، والأعصى، الأكثر والأقلّ استسلاماً.
بنات الشارع حلم البيوت، شقيقات النعمان والنعمة، أميرات الشوك الطيّب، غمامات النعيم، أجمل إضافة توضع لكلمة شارع، ثريّات الأعمى، عرائس لا أحد، كواكب الرصيف، بنات الأفكار الأولى والأخيرة، بنات هيكل الغوى الأعظم، المشيّد بحجارة الشوق، العابق ببخور العيون المُهْلكة، بنات الصدْفة الماحية للوعي، بنات اللحظة.
لا شيء هنا يضيع. نذوب جميعاً كالملح ولا نضيع. نضيع عن معتقلاتنا، عن جفصيننا، عن عفونة الإقامة وسأم العيون الأليفة، المألوفة، الحافظة إيّانا غيباً.
هنا، بين رائحة الإسفلت وطقطقة الأحذية النسائيّة وعجز الرجال، يستأنف الكائن تماسه مع غرائزه ويشمّ حشائش القرية، تغتسل ذاكرته بصقيع الينابيع السابقة، يتمرّغ ظهره الذهنيّ على البيادر الشقراء والمروج المرتعشة في طبيعة مستعادة بأقوى صورها فجأةً على أرض المدينة.

الشارع حائط نائم يفصل بين المشاة والوقوع.
مثلما هناك مقالات عكس السير تفصل بين القرّاء والواقع.
... والشارع يستيقظ فيقع المشاة.
والقارئ يُشيح بوجهه فتقع الجريدة.
ويقع الكاتب.
وتَهربُ لحظةٌ حطّتْ لحظةً في قبضة اليد.