كارولين صباح
حمدة يحيى صالح (51 سنة) مزارعة من قرية جبشيت في قضاء النبطية، تجيد التعامل مع شتلة التبغ ككل سيدات الجنوب، تمضي نهارات مثلهن في “شك الدخان” ولكن مساءها مختلف، فيه تختلي مع ألواح خشبية والريشة والألوان.
كانت حمدة لا تزال فتاة صغيرة حين اكتشفت أنها تحب الرسم، وقد أبدعت رسوماً جميلة خلال الحصص المدرسية، وقد حملت هذه اللوحات معها الى بيت الزوجية في بلدة عدشيت، وضعتها في غرفة خاصة، بيد أن فأراً سرق منها “بعضاً من طفولتها” وأكل رسومها.
درب حمدة الفني كان وعراً، إذ قامت في وجهها حواجز كثيرة، ولكنها لم تيأس يوماً، لم ترم الريشة، و“بدأت “نضالها” في وجه مجتمع ظالم لا يتذوق الفن”، كما تقول، فروّضت الظروف الصعبة التي حاصرتها لتخلق منها ظروفاً ملائمة لإبراز موهبتها.
تقول حمدة “عملت بعزم الجبابرة، كنت أقوم بأعمالي المنزلية اليومية، إضافة إلى زراعة الدخان (التبغ) وقطافه وشكّه، والاهتمام بأولادي الثمانية، وأسهر ليلاً بجانب فراشي، أنا وألواني لكي أرسم”. تسترجع السيدة الخمسينية ذكرياتها: “في البدء كنت أعمل بأسلوب بدائي جداً، استخدمت أقمشة خام عادية وكنت أمزج الألوان بمادة الكاز، فلم أكن أملك المال الكافي لشراء المواد اللازمة للرسم، وكان زوجي ينزعج من الرائحة التي تنبعث من زجاجات الألوان، وأنا أيضاً كنت أكاد أختنق منها أحياناً، ولكنني كنت مصرة على الاستمرار، فيما كان زوجي يعتبر عملي “مضيعة للوقت” ولم ألق منه التشجيع اللازم”. مرت الأيام وتحسّن أداء حمدة وأظهرت موهبة كبيرة في الرسم فتغيّر رأي الزوج “بعدما تأكد من موهبتي وبعد الشهرة التي اكتسبتها، فمد يد المساعدة لي”.
تقوم علاقة خاصة بين حمدة وأعمالها، فهي تصف لوحاتها بـ“الكون الصغير وقد انطوى فيه العالم الأكبر”. خطوطها متناغمة ومنسجمة ومتناسقة، يتحول من خلالها القماش والخشب من مواد خرساء الى صور تنطق كل منها بقصة مختلفة. من الطبيعة بألوانها وأضوائها التي تحاكي إحساس الناظر إليها، الى الحياة اليومية للفلاح اللبناني، وقطاف الدخان، والخبز على التنّور، وجرش القمح، ولم تنس حمدة معاناة الجنوبي، فالاعتداءات الإسرائيلية والموت والدمار شكلت جزءاً من لوحاتها، ولكنها تؤكد أنها تفضل رسم الفرح والحب في لوحاتها.
وتقول حمدة: “شاركت في معارض عديدة كان أهمها في خان الإفرنج في صيدا عام 2000، مع 42 رساماً من مختلف الجامعات اللبنانية، وبعت عدداً من لوحاتي، واحدة منها اشتراها مندوبو البعثة الأوروبية في لبنان وهي تصور الوحشية الاسرائيلية والدمار والموت. قبل ذلك شاركت في معارض في جبشيت ويحمر حيث بعت أول لوحة لي بـ42 ألف ليرة”.
تهدي حمدة لوحاتها أو تبيعها ولكنها لا تنسى أن تتقدم من المالك الجديد للوحات بطلب وحيد وهو أن يسمح لها بـ“زيارة تلك اللوحات بشكل دائم، لا أستطيع إلا أن أرى لوحاتي، أشتاق إليها، هي جزء مني، أضع فيها شيئاً من نفسي وأحلامي وخيالي”.
ظروف الحياة الصعبة اضطرت حمدة إلى التوقف عن الرسم لفترات، وهي لا تزال تتذكر بألم يوم أصيب ابنها علي قبل سنتين في حادث سير، دخل على أثره في غيبوبة ستة أشهر، عاد بعدها إلى حياته ولكنه فقد ذاكرته ويعاني مشاكل صحية، وتقول “تأثرت كثيراً بما حدث لولدي، كنت أراه يتعذب، فقدت القدرة على التركيز، ولكن إيماني بالله وقدرته على الشفاء جعلاني أفرح بعودة علي إلى الحياة. بعد شفائه عدت إلى الرسم”. وتوقفت حمدة عن الرسم بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، فهي مشغولة بترميم منزلها المتضرر وإنقاذ ما تبقى من موسم التبغ، ولكنها تشتاق إلى اللوحة والريشة، تبتسم وتقول: “عندما أنتهي من شك الدخان وتحضير المؤونة سأعود الى ريشتي وألواني وسأرسم من جديد”.



من ذكريات البدايات
تشعر حمدة بامتنان كبير لجارها الرسام محمود عبد الله فهو أول من ساندها طفلة وشجعها على صقل موهبتها.
كان إيــــــــــمانه بموهبتها كبــــــــــــيراً جداً، وقد كان يشتري لها كل ما تحــــــــــــتاج إليه مــــــــــن أدوات من بــــــــــــــيروت، وتتذكر «لم أكن أعرف كــــــــــــــيف ومن أين أشـــــــــــــــــتري الألوان، الى أن بدأت شــــــــــــيئاً فــــــــــــــشيئاً أخـــــــــــــرج لشراء ألواح الألوان، حتى إنني كنت أقصد منشرة نجار، أشتري منه الخشب وأشد القماش من دون مساعدة من أحد، لأنني أثق بموهبتي وعرفت أنني سأقنع الجميع بموهبتي وبجديتي وبتعلّقي بالرسم، كنت أقضي ساعات الليل، أمزج الألوان وأعود صباحاً كالعادة لزراعة التبغ».
لم تعد حمدة اليوم في حاجة إلى إثبات موهبتها، فقد صارت محط إعجاب الكثيرين، وهذا ما يشعرها برضى كبير.