بيسان طي
عملية إعادة إعمار وسط بيروت التجاري لم تراع الحفاظ على طابعه القديم، كثيرون لم يتعرفوا إليه، وتخـــتلف آراؤهم فيه، بعض هـــؤلاء معجبون بما صار عليه الوســط، يعشقون الـ down town ولا يرغبون باستعادة الزمن الذي سبق الحرب، وبعضهم الآخر يشــــعر بأن «ذاكرته خضعت لعملية تدمير». اعتصام المعارضة أعاد عدداً كبـــيراً منهم إلـى وسط بيروت، وهنا حكاية امرأة عشقت «ساحة البرج»

كانت الشمس قد بدأت تغادر سماء بيروت حين وصلت وجيهة منصور إلى وسط العاصمة أو “البلد”. راحت المرأة الستينية تبحث عن مكان غابت عنه عشرين سنة أو أكثر.
تسمرت في الطريق الفاصلة بين بشارة الخوري وساحة الشهداء، استعادها الزمن الجميل إليه، وقفت تسترجع “المشوار الأخير إلى ساحة البرج كما كنا نسمي المنطقة كلها”. كان ذلك في يوم شتوي من عام 1975، جاءت مع صديقتها أم كمال وهي زوجة خياط، قصدتا سوق الدباس لشراء حاجيات الخياطة. يومها شعرت بأنها لن تعود إلى هذا المكان أبداً، قالت إنها حاولت جاهدة أن “تطرد الأفكار السوداء من رأسها” وفشلت، شيء ما كان يلح عليها بأن تودّع هذا الوسط “إلى الأبد”.
مساء أول من أمس عادت السيدة وجيهة إلى ذلك المكان. جاءت لتشارك المعتصمين في احتجاجهم ولتبحث عن ساحة أو مبنى أو حجر ما من “ساحة البرج والأسواق والمقاهي”. تسمرت خلف الأسلاك الحديدية ترنو ببصرها نحو ساحة الشهداء ولا تسمع ما يقوله لها العسكري، لعله يريدها أن تبتعد، التفتت إليه تسأله “هل هذا مكان تمثال الشهداء الأصلي؟” فلم يجب، كان همه أن يبعدها عن السياج الشائك وهي تشعر بالذكريات تهرب منها، بكت أولاً، وحدها دون كل المعتصمين كانت تبكي، هم يصرخون ويهتفون من ورائها وهي تبكي أمكنة لا تجدها.
قال لها بعض الشبان إن التمثال عاد إلى مكانه، ردت: “هذه إذاً ساحة الشهداء” استبشرت خيراً، ستتمكن أخيراً من إعادة رسم “جغرافيا المكان”، أخذت نفَساً عميقاً وراحت تحكي: “كان مقهى “لاروندا” يقع بين ساحتي الدباس والشهداء، وكنا نتجه صعوداً لنقصد “البحصلي” محل الحلويات الشهير، وكان مقهى الجمهورية في الاتجاه المعاكس من الشهداء نزولاً، وهو إلى جانب سوق سرسق الشعبي وكنّا نتبضع منه، وفي شارع المعرض كان سوق أيّاس وسوق الطويلة وكان يقصدهما الميسورون عادة، أما مبنى اللعازرية فلا يشبه نفسه أبداً، ما هذا المبنى شبه المهجور؟ أين التجار والخياطون وأصحاب البضائع المتنوعة؟ أين الزبائن والناس؟ ”، فوجئت بالتياترو الكبير لا يزال بعضه يحمل آثار الحرب “سمعت أنهم أرادوا أن يجعلوه مطعماً”، استدارت مسرعة “لا أريد أن أرى ساحة رياض الصلح، لا أريد أن أكتشف المزيد من التدمير، أين ذكرياتي، أين سنوات عمري الجميلة، أين الأسواق التي كانت تفتح ليل نهار، أين الناس، أين الكتاب والمثقفون والعمال والفقراء وعاشقو لعبة الطاولة، والمقـــاهي والمكتبات، والـــــتجار؟ أين كل البلد”؟.
قالت إنها تحن لضجيج أصوات الناس، كانت تسترجعها، تستعيد صور الأمكنة التي امّحت، كانت تتكلم بغصة كبيرة، تغمض عينيها، ترفض أن تصدق أنها “في ساحة البرج لأن الساحة لم تعد موجودة”.
بحثت عن “الأمل الأخير” عن آثار ما لسينما “ريفولي” قرب ساحة الشهداء، قـالت إنها جاءت إليها للمرة الأولى بعد أيام من زواجها، كانت ترتدي فستاناً كفستان بطلة الفيلم الأجنبي، تحلّق حولها بعض الحاضرين فأبعدهم زوجها مؤكداً لهم أنها ليست أجنبية وراح يصرخ “ليست ممثلة، هذه عروسي”. نسيت اسم الفيلم، رحل زوجها قبل سنوات وسينما ريفولي لا أطلال لها.
“كنت أعرف أنهم غيّروا معالم المنطقة، أنها لم تعد للبنانيين، للفقراء والأثرياء معاً، ولأبناء الطبقة الوسطى، قالوا لي إن لا مكتبات فيها ولا بيوت ولا أسواق، صارت كلها مطاعم وفي بعض مبانيها تجول الأشباح، لم يقل لي أحد إنها لم تعد موجودة، إن الوسط بشع وإنهم مزقوا ذاكرتنا؟، اختلطت الصور، أكانت الأسواق هنا أم في مكان آخر؟”.
استدارت، مشت بين خيم المعتصمين، ابتسمت لصورة عملاقة لمعروف سعد، سألت “هل يعرف ما الذي تغير في البلد من بعده؟”.
ارتفع صوت الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله من مكبر صوت قرب خيمة، وعد بالنصر مجدداً، رفعت يديها تحيّيه، “اعذرني يا سيد، لن أكمل الاعتصام، أنا أتألم ولا أريد أن أبقى في هذا المكان”.