كامل جابر
يعاند إيليا بربور بعض آلام جسده النحيل و“وجع البال” وسنين عمره التي فاقت الأربع والسبعين، ويتوجه كل صباح إلى محترفه القريب من الميناء في صور، عند الزاوية الجميلة.
هنا في المحترف يقلب الأخشاب المحفورة بإزميل يده التي احترفت صناعة المراكب، ويواظب على حرفته. وحده بقي من أبناء هذه الحرفة في صور، بعد وفاة نديم المهنة أمين عكنان قبل نحو ثلاث سنوات، وقبله رحل معلمو الصنعة الواحد تلو الآخر، فيما فقدت الحماسة روادها ولم يفلح المعلمون في توريثها على رغم أن مئات البحارة، الصوريين، وغير الصوريين يعتاشون من المراكب والسفن.
عام 1955 غادر بربور مهنة “البيطرة” التي ورثها عن أبيه، وأتى نحو حرفة صناعة المراكب الرائجة ازدهاراً، في حينه، وقد اختار أكثر المدن الموغلة في التواصل مع البحر الملتف حول المدينة، أي صور ، وانخرط في ورشة أربابها وعمالها بالعشرات، وراحوا يبدعون في تصنيع المراكب والسفن من الخشب المستورد من خلف البحار عينها، بمعدات متواضعة تعتمد على الجهد اليدوي والأفكار المبتكرة.
بربور ملمٌّ بمهنته، يحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب، تماماً كالمقاييس والأطوال المحفورة في ذاكرة من لا يفقه كتابة وقراءة.
يعتز الحرفي القدير بواحد من أهم إنجازاته، فقد أبدع عام 1970، وحيداً، في صناعة أول سفينة سياحية بطول 25 متراً وعرض خمسة أمتار ونصف المتر، ويقول: “إنها ترسو في ميناء الاسكال ــ جونيه، تحت اسم أليسا”. وزاد إلى تميزه شهرة عام 1999 حين ابتكر سفينة “على النمط الفينيقي المنقوش على “الفرنك” النحاسي القديم، خمسة قروش لبنانية، بناء على طلب وزارة السياحة اللبنانية، لتشارك في فاعليات مهرجان البرتغال للسياحة الدولية”، وجعل مقدمتها رأس حصان، ومؤخرتها ذيل سمكة.
يقتصر عمل المعلم إيليا في السنوات الأخيرة على إصلاح بعض أعطال السفن والمراكب “الصورية”، ما يتيح له كسب بعض المال الذي يقول فيه إنه “لا يسد رمقاً أو يحارب جوعاً، لكن ذلك أفضل ألف مرة من إقفال هذا المحترف الذي يكاد يكون الوحيد في الجنوب لولا اثنان آخران متواضعان، لشقيقين فلسطينيين، الأول في الصرفند جنوبي الزهراني، والآخر في مدينة صيدا”. ويؤكد بربور أن محترفه هذا “لو استثمرته في أي توظيف آخر اليوم، كمقهى أو مطعم، لدرّ عليّ أكثر بكثير من فتات المهنة التي نسيها الجميع، مع أن حياة الصيادين في مدينة صور تعتمد عليها. أربعة من أولادي علمتهم هذه المهنة حتى أضحوا معلمين فيها، هم معي في المصلحة، لكنهم يجلسون في انتظار أن يأتي أحدهم يوماً ما، راغباً في صناعة مركب جديد، هذا إذا أتى. الموجود من مراكب في الميناء اليوم لم يطرأ عليه أي جديد في السنوات الأخيرة، بل يُباع بعضها من واحد إلى آخر؛ وأخاف أن يأتي يوم يتوقف فيه البحارة عن صيد السمك في صور وعن قيادة المراكب الماخرة عرض البحار، وخصوصاً بعدما فقدت الصنعة أيام عزها وروعتها، وكل جديدها”.