حوراء حوماني
لطالما قيل إن السياسة هي خبز اللبنانيين اليومي. وحين ينسى المرء هذه المقولة يصادف أحداثاً صغيرة تذكّره بها، كأن يستقل سيارة أجرة أو يقف بانتظار “طلبية” في مطعم وتقع عيناه على لوحة كتب عليها: “ممنوع التكلم في السياسة”، حينها فقط يدرك الى أي حد أدمن اللبنانيون الخبز السياسي.
فؤاد خفاجة صاحب فرن في أحد أحياء بيروت، يتعارض توجّهه السياسي مع انتماء أبناء الحي. يقول إنه اضطر الى وضع اللوحة الكرتونية كاتباً عليها: “ممنوع التكلم في السياسة وشكراً”، كي يتقي ألسنة أهالي المنطقة التي تتكلم دائماً ضد خطّه السياسي وتهين مسؤول حزبه المفضل. ويضيف: “أشير دائماً الى اللوحة عندما يحاول أي من السكان الخوض في ما يغيظني” إذ هناك أناس لا تقف عند حد في الاتهامات التي توجّهها للطرف المعارض لها. لكنه يعترف انه يسمح لبعض الرفاق المعتدلين أو المقرّبين بالنقاش السري. وفيما يشير صديقه محمد إلى أنهم لا يخافون على لقمة العيش عند التصدي لآراء بعض الأهالي، يقول داني الموظف في محل لبيع العصير في منطقة بشارة الخوري إن صاحب المحل اشترط على الزبائن والعاملين الامتناع عن التحدث في السياسة لكي يتقي المشاكل التي قد تؤثر في حركة البيع في المحل. ويقول داني وهو مشغول بعصر الليمون لأحد الزبائن إنه يعلّق على زلّات لسان “معلمه” مع بعض الناس، فيجيبه: “الممنوع ممنوع على الموظفين والزبائن ويحق للمسؤول ما لا يحق لغيره”. كما هي حالة السياسيين في البلد، كذلك هي حال داني مع رب عمله. كثيرة هي الأمثلة عن أشخاص يفضّلون عدم الخوض في القضايا السياسية درءاً لـ“وجع الرأس” الذي قد يسببه التنوع “المضر” في بلد كلبنان.
وقرب ورقة تعرفة أجرة التاكسي الجديدة، يلصق السائق أبو كمال ورقة كتب عليها: “يمنع التحدث في السياسة”. ويعزو السبب الى حاجة الجميع الى فترة يقاطعون فيها السياسة والسياسيين معتبراً “ان السياسة في لبنان تؤدي الى أمراض خطيرة ومميتة”. ويقول إنه لا يشعر بالملل إن لم يستمع الى الأخبار ويضيف: “بسمّ بدني مرّة واحدة ليلاً” أي لدى استماعه الى نشرة المساء المفروضة على كل لبناني. ويعلق ساخراً حين يقارن بين نشرات الأخبار عبر المحطات المتنوعة في لبنان، “أسافر يومياً عبر القنوات إذ إن كل قناة تشعرك بأنك في بلد مختلف”.
يضع أبو كمال شريط “موعود” للفنان عبد الحليم حافظ ويعيده كلما انتهى مقاوماً رغبة سائقي السيارات عادة في فتح الأحاديث المختلفة مع الراكبين. ويقول “صار هناك مادة دسمة ويومية في الحياة السياسية اللبنانية يتحدث بها ركاب السيارة”. ويحكي عن شجارات كثيرة وقعت بين الركاب بسبب الاختلافات السياسية بينهم ويقول “صارت السيارة أشبه بمنابر السياسيين المتطرفة هذه الأيام”. وينهي أبو كمال حديثه عن السياسة متمتماً مع عبد الحليم “وأمانة يا دنيا أمانة تاخدينا للفرحة أمانة” محرّفاً البقية: “وتخلّي الحرب بعيدة عنا...”.