موسكو ــ الأخبار
ترقد مجموعة من كنوز الذهب والفضة والأحجار الكريمة في أقبية متاحف موسكو، يكسوها الغبار. ويقول خبراء إن قيمتها تفوق تسعة مليارات دولار. ولم تقرر الحكومة الروسية حتى الآن تحديد مصيرها النهائي، ولا يبدو أن السلطات اللبنانية ــ مالكتها الشرعية الوحيدة ــ تعمل لفتح ملفاتها، والبحث عن طريقة لاستردادها وإعادتها إلى بيروت.

تعود خيوط القضية المثيرة إلى سنوات الحرب اللبنانية.
في خضم الأحداث المأسوية، فقدت من خزائن المصارف الحديدية في محلة باب ادريس في بيروت عشرات آلاف القطع من مجوهرات ونقود أثرية فارسية وهندية.
مرّ وقت طويل دون أن يأتي أحد على ذكر هذه المجوهرات. وبعد أحداث آب 1991 في موسكو، وفوز بوريس يلتسين بالسلطة، وبفضل التنافس، الذي دار بين الاستخبارات (لجنة أمن الدولة) ووزارة الداخلية السوفياتيتين، وبين النيابتين العامتين الروسية والسوفياتية، تسرّبت معلومات ألقت بعض الضوء على هذه القضية وعلى علاقة منظمة الـ “ك. ج. ب” بها.
كان رئيس المنظمة السابق فلاديمير كروتشكوف قد شارك في مؤامرة لتنحية ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، وبعد عودة الأخير من عزلته الإجبارية في أوكرانيا إلى الكرملين، زج بكروتشكوف في السجن وعيّن صديقه فاديم باكاتين رئيساً للـ“ك ج ب”، بهدف تحجيمه.
اطّلع باكاتين على وثائق القسم المالي في رئاسة المخابرات السوفياتية، وعلى أرقام المصروفات على مختلف المؤسسات الوهمية والأحزاب الشيوعية وعلى العسكريين والسياسيين والوزراء الموالين للاتحاد السوفياتي في العالم. وعثر على وثائق تفيد أنه في عام 1982، اتصل قادة فلسطينيون برجال المخابرات السوفياتية في بيروت، وأكدوا لهم وجود الكنوز والمجوهرات بحوزتهم وعبّروا عن رغبتهم بمقايضتها بصفقة أسلحة سوفياتية.
وضعت المخابرات السوفياتية يدها على المجموعة، لكنها لم تسارع إلى إخراجها من بيروت. ولم تعط المراجع السوفياتية المسؤولة موافقتها على الصفقة على الفور، واستمرت المفاوضات المضنية بين الجانبين السوفياتي والفلسطيني عامين، وتولّاها أخيراً الأمين العام للحزب الشيوعي آنذاك ليونيد بريجنيف، ثم خلفه يوري أندروبوف، وأرسل «ملف خاص» فائق السرية إلى اللجنة المركزية للحزب أيضاً وإلى مجلس الوزراء، ولعب تقرير أعدّته وزارة الثقافة السوفياتية حول قيمة المجموعة التاريخية الاستثنائية الدور الأهم في الموافقة على إبرام الصفقة، التي أطلق عليها في أوراق وأروقة المخابرات السوفياتية اسم «الحلويات الشرقية».
وتمكن صحافيون عام 1992 من قراءة بروتوكول جلسة المكتب السياسي للجنة المركزية رقم 185 لعام 1984 حول الصفقة، ويتحدثون عن وجود عبارة فيه تدعو إلى «إبلاغ الجهة الفلسطينية [المذكورة في التقرير] عن موافقة الجانب السوفياتي المبدئية على تقديم أسلحة بقيمة 15 مليون روبل (20 مليون دولار تقريباً بالسعر الرسمي) مقابل مجموعة من الكنوز الأثرية». كانت هذه هي المرة الأولى، التي يشار فيها إلى الجهة الفلسطينية هذه. وفي كانون الأول/ ديسمبر 1991، كان أحد المحققين مع المسؤولين الشيوعيين المتآمرين على غورباتشوف قد اعترف بشكل عام بوجود هذه الصفقة. وبعد ذلك بشهر ونصف، أكد أحد كبار المسؤولين عن المتاحف الروسية وصول أول قسم من «الحلويات الشرقية» إلى بلاد الشمال وتسلمه لها عام 1984، وأكد أنها أخرجت بطريق الجو من بيروت، وكان يشرف على هذه العملية رئيس الـ“ك. ج. ب” فلاديمير كروتشكوف شخصياً.
من جانبه، أكد رئيس الـ“ك. ج. ب” السابق شيبريكوف لدى التحقيق معه عام 1992، أن هذه النقود والمجوهرات كانت بحوزة الجهة الفلسطينية بالفعل، وأنها هي التي بادرت إلى الاتصال بالسوفيات لإبرام الصفقة «الأكثر ربحاً في تاريخ الاستخبارات»، كما عبر مسؤول آخر. وأضاف أنه «بينما تقدم الدولة السوفياتية أسلحة بقيمة عشرين مليون دولار للجهة الفلسطينية، تحصل على كنوز قيمتها بضعة مليارات من الدولارات»، فيما تحدثت وثائق اللجنة المركزية عن مبلغ تسعة مليارات دولار [بأسعار الثمانينيات من القرن الماضي].
وأول من أشار في الصحافة الروسية إلى صفقة «الحلويات الشرقية» في عام 1993، الصحافيان الروسيان سيرغي سوكولوف وسيرغي بلوجنيكوف، اللذان كانا يعملان في صحيفة «الكومسومولسكايا برافدا» الروسية؛ وقد اعتمدا في مادتهما المثيرة على أحاديث خاصة مع مصادر موثوقة في قمة السلطة الروسية في ذلك الوقت، بل كان غينادي بوربوليس، أحد هذه المصادر ورجل موسكو القوي وسكرتير الدولة آنذاك، يريد إصدار تصريح رسمي حولها، لو لم يثنه عن ذلك المدعي العام الروسي آنذاك ستيبانكوف «ريثما تكون قد انتهت التحقيقات مع المسؤولين الشيوعيين السابقين...»، كما اعترف بذلك كبير موظفي الكرملين آنذاك كوتينكوف لمجلة «أوبوزريفاتل» الأسبوعية في عددها الأول من عام 1993.