أنسي الحاج
نبقى أو نهاجر ليس هو السؤال، بل كيف نهاجر وكيف نبقى؟ الراغب في الهجرة يفتقر إلى وسائلها المادية، والميسورون سبق فضلهم وحملوا حقائبهم إلى القارات. والراغب في البقاء ينتمي إلى واحدة من فئتين: فئة الاستسلام القَدَري وفئة المستفيدين من «النشوء اللبناني الجديد». الطبقة اللبنانية الجديدة المؤلفة هنا من فقراء سابقين وهناك من وطنيين حديثين دفعوا ما دفعوا من أثمان دموية للتراب والسيادة عليه.
غيرهم سبق أن دفع. لكن انهمار النكبات استنزفه وأرهقه وراح يدفعه دفعاً إلى الخروج، يشجعه عدم تناغمه مع المحيط العربي الأكبر وتضافر جهود من يشجّعه على هذا التشجُّع. لقد تناقص عدد المسيحيين في لبنان إلى حدّ يُنذر بتحوّلهم إلى جالية أقليّات، رغم أن تأثيرهم المعنوي في السياسة والفكر والأدب والفن لا يزال إرثاً ضخماً وموضع إعجاب حتّى من المحيط العربي الأكبر، ولو لم يكن موضع تكريس «رسمي» على قدم المساواة مع التكريس «الرسمي» للأعلام المسلمين.
فضلاً عن أن الإنتاج العربي «المسيحي» هذا كان ولا يزال يحدُّ نفسه بالتزامات «حسن الجوار الحضاري» فيراقب نفسه حتى لا يتجاوز المسموح به في الشؤون الحسّاسة. بهذا المعنى لم يتدخّل ناقد مسيحي في الجدالات اللاهوتية الإسلامية ولا اجتهد حيال الإسلام بحريّة يشتهيها ولا يجرؤ على الاقتراب منها، متمنيّاً دوماً أن يكون إخوانه المسلمون هم أصحاب المبادرة إلى مثل هذا الانتحار.

نعود إلى الهجرة والبقاء. في أحيان عديدة تكون الهجرة أسوأ من البقاء، وخاصة على الصعيد الأدبي والفكري. وأما الصعيد الصحافي فقد أظهر فشله إبّان الحروب اللبنانية حين هاجر قسم من الصحافة اللبنانية إلى باريس ولندن بدعوى اللحاق بالحريّة، فإذا بهذه الصحافة تكرّس كل جهدها لعدم إغضاب الأنظمة العربية من أجل السماح بدخول أعدادها إلى البلدان العربيّة أو حماية لأصحابها من الاغتيال أو طمعاً بمغانم ماليّة مباشرة أو غير مباشرة تارة من أهل النفط وطوراً من المرحوم عرفات، ناهيك بهذا الثري أو ذاك من أثرياء ألف ليلة وليلة.
هذا في حقل الصحافة. أما «الثقافة» عموماً فلعلّ آخر نجم فيها أفاد من هجرته لتفتيح طاقاته هو، على الأرجح، جبران خليل جبران. بعده لا نعتقد أن أحداً من المهاجرين العرب فعل أكثر من «تحصيل العلم» أو الاندماج في الغربة ولغة الغربة وشروط الغربة. وربما بعض التجارب الجنسيّة لاستخدامها لاحقاً في روايات أو قصائد إكزوتيكية تُنشر أو تترجم في أرض الوطن.
محور الكلام هذا هو الحريّة. العربي، ولو هاجر إلى «بلاد الحريّة»، يعاني مشكلة صعبة مع الحريّة. والملاحظ أن الظاهرة ليست نفسها مع المسلمين الآسيويين من غير العرب، كسلمان رشدي وتسليمة نسرين. كأن الأمر لا يتعلّق بالإسلام بقدر ما يتصل باللغة العربيّة. لغة الإسلام العربيّة أو لغة العرب الإسلاميّة. لا نستطيع أن نحصر أسباب التراجع العربي أمام التعبير الحر (بلا حدود ولا تحفّظ) إلى عوامل الاستعمار وحدها، لأن الشعوب الآسيوية خضعت للاستعمارات ذاتها. ولا للتخلّف الحضاري، فلم تكن الشعوب الآسيوية بأفضل حالاً منّا. ربّما كان للاختلاط بين الإسلام والمذاهب الأخرى في آسيا كالبوذية والهندوسية والكونفوشيوسيّة تأثير ما، إلا أننا نرجّح ارتباط لغة العرب بالقرآن حدّ التماهي. هنا مصدر التهيُّب حتى الشلل. قدسيّة العربيّة، هذه القدسيّة المجمّدة فوق الزمن، ترمي بثقلها في العقلين الواعي والباطن وترسم الحدود القاهرة. كان المفكر الجزائري جمال الدين بن شيخ يقول إنه لا يكتب العربيّة لأن العربيّة هي التي تكتبه لا هو من يكتبها. تراثها يسبق تجربة كاتبها. يسبقها ويُسوّرها.
لكنّ مكمن العقبة هو نفسه قد يتحوّل مُنْبَثَقاً للحلّ. لا ضغط بلا انفجار. لا منع بلا انتهاك. هنا، ليس المهجر الجغرافي هو الإطار الأنسب، بل المساحة الوجدانيّة. التمرّد لا يحتاج إلى هرب بل إلى اختناق. إلى امتناع الهرب. إلى المواجهة ولو انتحاريّة، بل الأفضل أن تكون انتحاريّة.

العقل الغربي قويّ لأنه يُسمّي الأشياء بأسمائها ويوغل ولا يخاف. حتّى الجوانب المضيئة في تاريخ الفكر العربي كانت مضيئة نسبياً، في الغالب. قلّما بَلَغَت الذرى القصوى. وإلّا فقد كانت تلفلف الذرى بالرموز والضباب. الشمس العربيّة ساطعة في الصحراء وغائمة قَمَريّة في الكتابة والنقد. حتى لو هاجر العربي بحثاً عن حريّة فإنما عن حريّة سياسيّة ربّما (كما حصل ضد تركيا العثمانية، ضدّ الانقلابات العسكريّة، ضد عبد الناصر، ضد صدام حسين) لا لكسر الحواجز بالتمرّد الجوهري وقول ما لا يقال. يُستشهد العربي قَتْلاً قبل أن يقول ما كان يمكن أن يقول. يُغْتال احتياطاً. ويكون الدرس قامعاً لمن كانت تسوّل له نفسه العصيان. إذاً، لماذا الهجرة ما دامت السلاسل في الرأس؟

أما المسيحي العربي فليس بأفضل حالاً بل بالعكس. يُزايد ليظهر غير مريب. يولد وردّ الفعل قَبْله. رد فعل مقنّع ومكبوت أغلب الأحيان ولحسن الحظّ. فالمطلوب هنا ليس منه، لا تفادياً للفتنة بل للفعل العبثي. إذا انتقد اليهودي المسيحيّة فلن يزيد المسيحي إلّا تمسّكاً بها. على المسيحيّ أن يقوم بالنقد. الشهادة لمن كان في الداخل. لغيره أيضاً الحقّ، طبعاً، ولكن التأثير ليس هو نفسه. لو كتب ألف مسيحي عربي ما كتبه عبد الله القصيمي لما جاؤوا بقيمته ونفوذه. لو كان كارل ماركس كاثوليكياً لا يهوديّاً من يدري كيف كان يكون مصير الماركسيّة في الغرب؟

شهيد آخر دم آخر رعشة أخرى تهزّ المختبر الصغير. مجتمع تحت رحمة علماء القَتْل. لبنان العراق فلسطين السودان الجزائر. شهيد آخر في عائلة شهداء. دم آخر في لبنان الأحمر. موجة هجرة جديدة تنتظر المطار.
هل يجيء يوم يفرغ فيه لبنان من سكّانه؟
من سكّانه، لا، قطعاً. وبالمقدار نفسه نستطيع القول: ولا من الأحرار. لا مكابرة ولا مفاخرة، فهذه طبيعة البلاد ومناخها وتسهيلاتها. نكتب هنا لا لننذر من الهجرة بل لنقول عدم جدواها. سيظلّ اللبنانيون يهاجرون استرزاقاً، ومثلهم سائر العرب الفقراء. وهذا حَسَن. لكن الهجرة الفكريّة من أجل الحريّة كانت ولا تزال وستبقى ضرباً من العَبَث.
السلاسل هنا في الداخل. داخل الرأس. وتحطيمها يحتاج إلى هجرة واحدة هي الهجرة من الخوف.
من الوعي الجبان، ومن الخوف.