نادر صبّاغ
يسأل الأميركي الذي يزور صيدا القديمة للمرة الأولى صديقه اللبناني «هل علينا أن ندفع رسم دخول؟» يجيبه اللبناني بابتسامة، «ليس الأمر شبيهاً بدخول والت ديزني، إنها منطقة سكنية، يعيش فيها أناس حياة عادية، ليس الأمر مشروعاً تجارياً». منذ أكثر من ست سنوات «سَنّ» بضعة شباب يسكنون ضاحية عبرا في شرق صيدا «سُنّةً» لم يكونوا يتوقعون أن تؤول إلى ما آلت إليه اليوم. بدأت القصة حين قرر هؤلاء تمضية بضع ليالٍ من شهر رمضان في مقاهي البلد القديمة. باتوا يقصدونها ليلاً لتناول السحور في مطاعمها الشعبية القليلة والمفتوحة بما يشبه الحنين إلى ماض سمعوا عنه من آبائهم وأجدادهم. اليوم تحول الأمر إلى «ظاهرة» لا يجد الصيداويون لها تفسيراً.
الـ«هجمة» على البلد القديمة تتزايد عاماً بعد عام. أناس من كل حدب وصوب، من بيروت والجنوب وإقليم الخروب، ومن طرابلس أيضاً، يقصدون صيدا القديمة للسهر ليلاً خلال رمضان. ولهذه السهرات طقوسها، من شرب النارجيلة والجلّاب والتمر الهندي والسوس والسحلب، إلى لعب الورق والطاولة والبرجيس، وصولاً إلى أطباق السحور التقليدية من فول وحمص وبليلة ومناقيش، وبعض الأطباق التي أُعيد إحياؤها كالتمرية والأزحى، وكل ذلك على أنغام موسيقى شرقية صاخبة تصدح في الشوارع الضيقة.
الغالبية من سكان المدينة تبدو مسرورة بما يجري. صيدا التي كان يؤخذ عليها في السابق أنها تنام باكراً، باتت مقاهيها لا تودع الرواد إلا مع آذان الفجر. الحركة نشطة، والمردود الاقتصادي مغر. لا أماكن شاغرة في المقاهي يومي السبت والأحد، والزوار يأتونها بعد حجوزات مسبقة.
صيدا القديمة لم تعد قديمة، غزتها «الحداثة». حداثة المقاهي الاستهلاكية التي انتشرت في كل مكان في شكل فوضوي، ولم توفر زاوية من أروقتها الحجرية. الكراسي والطاولات البلاستيكية تفترش الطرق، دكان في النهار ومقهى في الليل، هذه هي حال المحال في صيدا القديمة، حتى بعض البيوت شرّعت أبوابها أمام الوافدين رجالاً ونساءً.
زحمة ناس لم تعتدها المدينة، وكأنه أُعيد اكتشافها في رمضان فحسب. أكثر من 40 مقهى تم افتتاحها في أقل من سنتين، على مساحة لا تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد. ترميم المباني الحجرية «حمّى» تجتاح كل ما يمكن ترميمه ويصلح لمشروع تجاري. إيجارات المحال ارتفعت من 125 ألف ليرة شهرياً إلى 1000 دولار، وأسعار البيوت، حتى الآيلة للسقوط، تضاعفت مرتين.
محل أبو حسن الزين للبقالة الذي لا يتعدى طوله أربعة أمتار، بات اليوم يغصّ بالمتسحّرين الذين يفترشون الأرض لضيق المكان. ولأن الطقس الحار لا يلائم زبائن حمام الشيخ التركي، فقد حوّله صاحبه أبو خليل الحلبي إلى مقهى ألبس العاملين فيه ثياباً تتلاءم ورؤيته الشخصية للشهر الفضيل.
على رغم «السعادة» التي يشعر بها الصيداويون من «الطفرة الرمضانية» التي تعيشها مدينتهم اليوم، لا يخفي إمام أحد المساجد تخوّفه من قلة صفوف المصلّين وكثرة روّاد المقاهي، ومما ستفضي إليه هذه الظاهرة المستجدّة على المدينة المحافظة.