مراكش ــ ياسين عدنان
في حديقة مولاي عبد السلام الممتدة على مساحة ثمانية هكتارات في مراكش يمكن لقاء محمد باريز، أحد رموز ساحة جامع الفنا وأبرز رواتها، يردّ على السائلين عن حاله بالحديث عن معاناته في جامع الفنا. صخبُ الموسيقيين والمجموعات الشعبية يحاصراه، واكتظاظ الساحة بالرواد مع ما يصاحب ذلك من هرج ومرج جعل الاسترسال في سرد حكاية فيها اليوم ضرباً من المحال. ساحة جامع الفنا التي تعتبرها اليونسكو تراثاً شفوياً للإنسانية ضاقت بالرواة وصُنّاع فنون القول.
لكنّ الحديقة تفتح له ذراعيه تدعوه الى نسج خيوط حكاياته.
في عمق الحديقة تستكين شجرات التين الإستيكة الضخمة وبعض أشجار الجميز الوارفة الظلال، وفسقيات الماء في الصهاريج المجاورة تلطّف من حرارة الجو. هناك شرع باريز في قص حكاية علي شار وزمرد الجارية. وبالتدريج بدأ رواد الحديقة يلتحقون بمجلسه فوق مقعد مستطيل مغطى بصفحة من الرخام الأبيض. ليس هناك ما هو أجمل من سماع حكاية شيّقة من ألف ليلة وليلة في ظهيرة رمضانية قائظة. عابر يتوقف، مارّ يتخذ لنفسه مجلساً هنا أو هناك على الجنبات القصيرة المبنية بالطوب المطبوخ على الطريقة الموحّدية. وما هي إلا ساعة زمن وتجمّعت حول حكواتي مراكش الأشهر حلقة كبيرة.
يسترسل باريز، كما هي عادته، في الاستطرادات وفتح الأقواس. يحكي مرة عن السهروردي وكيف مات في سجنه. ومرة عن المتنبي مستشهداً ببعض شعره. ومرة عن عبد الرحمن المجذوب وتحذيره الناس من غدر الخِلّان ومكر النسوان وتقلّبات الزمان. وعلي شار، بطل الحكاية، يبذل في المال آناء الليل وأطراف النهار حتى ذهب ماله وساء حاله وتكدّر باله، ثم ظهرت زمرد في حياته فجأة تماماً كما ينبلج نور الفجر من الظلمة الحالكة. واصل باريز حبك حكايته على الطريقة التي لا يستطيعها إلا رواة جامع الفنا. كانت الأحداث عابرة للخرائط والجغرافيات. فحيناً يكون علي شار ابن تاجر من أكبر تجار خراسان، وتارة أخرى يصير أحد شرفاء مراكش، وداره التي في الحكاية ليست سوى تلك الروضة الكبيرة التي تحولت إلى مطعم شهير في حومة “رياض العروس”.
في وسط حديقة مولاي عبد السلام الضرير أجمل أراضي مراكش الأميرية التي تحولت أخيراً إلى “سايبر بارك” (حديقة إنترنت)، جلس سائحان يبعثان رسائلهما الإلكترونية لأصدقاء وأقارب من شمال الأرض، فيما كنا نحن نقطع مع محمد باريز بحاراً وصحاري افتراضية أخرى برفقة علي شار بحثاً عن زمرد أي الجارية التي طوَّحت بها أهوال الحكاية في مجاهل الدنيا قبل أن تتوّجها المصادفات السعيدة في النهاية ملكةً في بلاد بعيدة.
باريز كان سعيداً بموقعه الجديد. وشباب الحديقة فاجأوه بكرمهم. غداً سيعود إلى المكان نفسه بحكاية جديدة من حكايات ألف ليلة وليلة. وسيواظب على المجلس نفسه طوال الشهر الكريم. الليالي والأزلية والعنترية وأخبار الأمم البائدة. راوي رواة مراكش في انتظاركم، يا أهل مراكش وزوارها، خلال شهر رمضان، يومياً ابتداءً من الثالثة بعد الزوال إلى أن يحين آذان المغرب، وحصرياً في حديقة مولاي عبد السلام.