ريتا شاهين
تكاد تكون حردين في أعالي جرود البترون قرية الحكايات، فيها أكثر من ثلاثين هيكلاً ضخماً ومغارة وكهفاً وديراً وكنيسة. قيل عنها إنها أول قرية عرفت المسيحية في جبل لبنان.
في ظل سنديانة دير مار فوقا أقدم أثر مسيحي في جبل حردين، وعلى مقربة منه بنى الأب «يوسف صالح» صومعة تعتمد في هندستها الطراز اللبناني القديم، يعيش فيها الحياة على طبيعتها بعيداً من المدنية.
وعلى بعد كيلومتر واحد صعوداً، وعلى طريق متعرج ضيق، بنى الأب صالح في أعلى جبال حردين وحفر بين صخورها المعمّرة الشاهقة أكثر من ثمانية محابس حملت أسماء قديسين.
عمل الأب صالح في تلك الأرض لأكثر من 15 سنة في ظروف صعبة وخطرة، ويقول «منذ صغري وأنا هنا في هذه الأرض المقدسة ونَمت معي محبة الطبيعة وشعرت بدعوة للتكرس لله وقد سعيت إلى أن أكون راهباً عدة مرات لكن الظروف العائلية حالت دون ذلك الى أن تعرّفت بالإخوة في دير الأحمر ثم تسنّى لي ان أرتسم كاهناً على يد المطران جبرايل طبيا وبقيت ثلاث سنوات في طرابلس الى ان نقلت الى أبرشية البترون المارونية وسمح لي راعي الأبرشية المطران بولس اميل سعادة ان أبقى في دير مار فوقا الأثري لأعيد ترميمه وأعمل على بناء المنزل المهدم والمحابس».
ويلفت الأب صالح إلى أنه «من الصعب جداً بناء المحابس، كانت هناك أيدٍ خفية تساعدني باستمرار وسأتابع عملي في بناء المحابس» .
«أحداث روحية» عديدة يشهدها هذا المكان المقدس ويتوافد إليه الزوار بالمئات من كل المناطق اللبنانية والطوائف للصلاة والنذورات وسط أجواء من الخشوع والايمان والفرح التي ترافق حدوث «الأعاجيب والشفاعات». ويبحث الزوار دائماً عن إجابة للسؤال: كيف «تمكن هذا الرجل من حفر ونحت وزخرفة هذه المحابس».
في المحابس المدهشة التي حفرها بيده يحلو للأب صالح الحديث عن خياراته في الحياة فيقول إنه اختار التنسّك لأنه «في الأساس طريق للاختلاء بخالقي، والناسك هو رسول بحد ذاته ويستقبل الزوار لأن القداسة «مغناطيس» يجذب النفوس الى الله»، ويضيف «للعيش بسلام علينا العودة الى ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا من البساطة في الحياة والحفاظ على التراث والعودة الى الجذور الأساسية أياً كان ديننا أو طائفتنا أو مذهبنا».
وحول كيفية تمويل نشاطاته يقول «أتّكل على العناية الإلهية ومساعدات الخيّرين والزوار الذين يدعمونني مادياً لأستطيع ان أتابع مسيرتي، وقد رأيت أحلاماً عند بدء دعوتي فعلمت انها علامات من الله لم أستطع تحديدها وقتها الى ان بدأت بمشروع بناء المحابس».
في حردين حفر الأب صالح المحابس ليختلي فيها أحياناً أو يستقبل زواراً أحياناً أخرى، لكنه أرادها مكاناً يعيش فيه ناسكاً، لكنه في الوقت نفسه ينشئ بصبر وتفانٍ مقصداً للسياح وعشاق الفن والتراث، فمحابسه هي أيـــضاً تحف هندسية ستُحفظ في ذاكرة لبنان.