أنسي الحاج
أوّل فجر تراه ليس الفجر الذي أَبْصَرْتَهُ أوّل مرّة بل هو آخر فجرٍ تراه قبل موتك.

لماذا يعشق الرجلُ المرأة ويخاف الموت؟ إذا كان التجاذب قائماً على الاختلاف بين الجنسين، أليس الاختلاف بين الحياة والموت كافياً لكي تُحبّ الحياةُ الموتَ والحيُّ الفناء؟
أم أن الرجل تَحْتَ عشقه يُخفي خوفاً من المرأة وكُرْهاً، كما تتّجه الحياةُ إلى الموت مرعوبة منه وكارهة؟


الانحطاط الذي يَعْقب الرعشة ليس هبوط العودة إلى واقع الحياة بل هبوط العودة إلى واقع الموت.

نظلّ نصعد إلى الأوّلين بحثاً عن بدايات الخَلْق وعن روائح الكلام الذي لم يولد من كلام بل شقّ صخر المجهول، والرسم الذي لم ينزل من رسم بل من أول حاجة بشريّة للتصوير، والكتابة التي لم تتحدّر من كتابة...
نتساءل لا كيف كان ذلك، ولعلّه كان في ظروف انخطاف، بل ما إذا كان «الفاعل» الأول هذا قد شعر بالخجل مما فعل أو بالدهشة أو الذعر أو الذَنْب؟ أم لعلّه كالمرأة «النامفومان» ما كاد يَفْرغ من «فعلته» الأولى حتى شعر بالحاجة إلى غيرها وظلّ لا يعرف الارتواء ــ سواء هو شخصيّاً أو سلالته من جنسه؟ أليس «التراث» الأدبي والفنّي، من هذه الزاوية، وليد شَبَق هو نامفومانيا التعبير؟ وإذا نحن لم نكتفِ بالتفسير العيادي للنامفومانيا النسائية ونَظَرنا إلى أبعد من ظواهرها العضويّة (وهذا أمرٌ يوجب نفسه) أفلا نجدها شكلاً فاتناً مخيفاً من أشكال الإصابة بجوع المُطْلَق؟

حَسَدٌ مسموم. حَسَدٌ بكّاء. حَسَدٌ مستتر مقنّع بابتسام الودّ. حَسَدٌ، أخيراً، مُتَمَسْخر يهاجم بالهزء نيابةً عن الركل بالقدم أو القذف بماء الفضّة أو المعس بالسيّارة أو الإبادة الجماعيّة.
فيها كلّها بغْض وفي أخيرها، المتمسخر، البغض هو الأذكى لأنه، بَدَل أن يُعطي فريسته الشعور بأنّها ضحيّة، يُعقّدها بالنقص.

عندما يتساوى حاسدان في الغيرة واحدهما من الآخر، يَغْلب الذي به تجاه حَسَده شعورٌ بالذنْب أقلّ.

ما يَهزّنا هو مفاجأة اكتشاف عالمنا الداخليّ على هيئة شكل خارجي مادي. شكل «نحسبه» غريباً، لكنه ليس غريباً، لأن الغربة الحقيقيّة لا يمكن أن تهزّنا. لا تعنينا لأننا لا نتعرّف عليها.
ما يهزّنا هو نحن وقد صرنا آخر.
إننا لا نُحبّ ولا نكره غير أنفسنا. في الأولى نحن أصْدَق. في الثانية أكثر عدلاً.

نحن «نلاطف» الكلب لكنّ الكلب «لطيف» معنا. نحن «نُظهر» له لطفاً وهو «يمارسه». حين يقع نظرنا عليه نَحْسَب أننا نعرفه، ولا نفكر أو لا نصدّق أنه «يرانا» و«يعرفنا» وربما يعرفنا أكثر مما نعرفه.
صَبْرُ الحيوان على غَشْمَنَة الإنسان أكبر من صبر أيّوب.

تبريرٌ لعدم التعمّق: خشيةُ الرسوب في القعر.

لا نعرف ما يحتفظ لنا به الموت وراءه، ولكنْ، ما دامت الأمور في الدنيا وفي ظواهر الكون كلّه برهاناً على التفاوت، فالأرجح أن تكون معاملة الموت للموتى هي أيضاً متفاوتة.
الظن أن الكائنات تتساوى «في الموت» يجب أن لا يحملنا على الظنّ أنها تتساوى «بعد الموت».
لا إذا ظلّ القوي يأكل الضعيف هناك أيضاً، ولا إذا حصل العكس انتقاماً. في كل الأحوال بعد الموت لن تكون هناك مساواة.

مريدوكَ هم، بين أعدائك، أشدّهم ظلْماً. رافضوكَ ينشرون بينك وبينهم أودية التنكّر أو روابي الاختلاف. مريدوك يخنقونك بتحنيط صورتك. الساحة هنا مسمومة بفقر الحب وهناك بفقر الذكاء.
بين حائطي غربة: واحد بارد وآخر ساخن. وخارجهما حفنة تدفئ القلب، مكوّنة من أشباهكَ الذين لم يكونوا في البال...

بعضهم كان يضع على لسان الشيطان قوله إنه هو مَن يسرح ويمرح في رأس النائم منتهزاً غياب الرقابة. آخرون لا يكادون يشاهدون في مناماتهم غير ملائكة، أو يحلمون أنّهم يطيرون، علامة الطهارة، على ما قيل.
كائناً مَن كان حاكم الرأس، الرأس هو الخصم. الإنسان شجرة تمشي محمّّلَةً بالثمار وقمّتُها وكْر أفاع. أحياناً العكس: القمّة ثمار العافية والجسد يَنْغل بالأفاعي، ولا يلبث نفوذ الأفاعي أن يصعد ويستحكم بالرأس.
الرأس هو الخصم. دَعْهُ يَغْلبك لعلّه يرتاح وتبدأه من جديد، مُفْرَغاً.



غار السقوط
ليتكَ في هذا الوادي لا تذوق غير السقوط!
ليت الإنسان يُبلى بكل الأحمال ولا يـُحْرَم نداء هذا النزول! ولا يُحْرَم التلبية!
لمْ تُقَلْ ذرّة مما يحلو قوله عن هذا النداء. عن صلة الوصل بين المستحيلات. عن بَيع الروح. عن غار السقوط. عن وحشة ما بعد السقوط. عن عقاب الصبر. عن تكييف العقل بعد حرمان النعمة، عن تعذيب الجسد، عن عذاب الخُطى. لم يُقَل شيء عن السقوط، السقوط من غيمة التجربة إلى حضيض انسدال الستار.
لم يُقَل شيء عن الإمعان، عن الانغماس، عن الهَبَل العنيد، عن الهَبَل السعيد، عن التبحُّر في الجشع اللحميّ. الكلام لا يستطيع اللحاق بهذا الخروج من القبر. لماذا لا يلحّنه موسيقار؟ ولا اللحن يستطيع.
... شيء كأسهل شيء.
بَيْع روحٍ موفّق.
كذهبٍ سكران بالنار التي تأكله.