نقولا طعمة
بعد أيام قليلة سيحزم المسحراتي “أمتعته”، سيخفيها في “درج” ما لتستريح هناك سنة كاملة، ثم يوقظها من جديد من غفوتها ليستعيد “نشاطه” المميز شهراً كاملاً.
مسحرّاتي رمضان ليس مجرّد موقظ للنيام كي لا يفوتهم السحور، بل هو رجل يسهر كي لا يختفي التقليد الملتصق بشهر رمضان، وينتظره الناس بشغف لأنّه يضفي على الشهر معاني خاصّةيرى إليهم البعض أنهم يوقظون النيام، لكنّ “المسحراتيّة” ــ كما يسمون باللهجة اللبنانية ــ أغنوا أدوارهم فلم تعد تقتصر على الدقّ على الطبل والسير في الشوارع ليلاً، لتتعداه إلى ترديد الأناشيد المخصّصة لشهر رمضان. وينشدون في تطوافهم الليلي ما يجول في خاطرهم، أو ما يطلب الناس منهم.
وحين ينتصف شهر رمضان المبارك يبدأ طبّالوه الليليون بما يسمى “مراسم الوداع”، يجولون على البيوت، يقدّمون أناشيدهم ودعاءاتهم المتناسبة مع أجواء الشهر، ويلبّون طلبات العائلات بتلاوة الأناشيد التي يختارون، وتكون عادة تلبية لحاجة كالدعاء لمريض، أو التمني لأحد المهاجرين بالتوفيق، أو لإنقاذ أحدهم من مشكلة كبيرة لا يجد لها حلاً.
في مقابل ما يقدّمونه في هذا التجوال، وما قدّموه في تطوافهم طوال شهر الصوم، يحظى المسحراتيّة المعروفون بفرق النوبة، ببعض أطايب الشهر، وربما بعض النقود.
أكثر من عنصر يميّز المسحّراتي في طرابلس، منها تعدّد الفرق التي ينتمي إليها شاغلو هذه المهنة وتنوع انتماءاتها. تقاسم أحياء المدينة بين المسحراتيين عرف لا يخرقه أحد فلا تعبر فرقة الحي “المقتطع” لفرقة أخرى، ولا تزور منازل هذا الحي في الفترة المعروفة بـ“الوداع”، ويتميز “المسحراتية” في عاصمة الشمال من خلال الأناشيد التي تتلى إن خلال الشهر فجراً لإيقاظ الصائمين، أو في “الوداع”.
من الأناشيد، أقصوصة نبويّة تحكي عن فاطمة ابنة الرسول أنّه عندما لاحظها ذات مرّة منزوية حزينة، سألها عن السبب، فأخبرته عن دعوة لها من جيرانهم اليهود لحضور عرس ابنهم، وهي تخجل من تلبية الدعوة لأن ثيابها ممزقة وهم أثرياء. لكن الرسول بقدرته النبويّة يحلّ لها المشكلة.
ومن المدائح التي يرددها أيضاً المسحراتي في أحياء طرابلس ما يُكرّم الرسول والأنبياء، ومنها: يا ترى قبل النبي من كان رسول الله، كان الذي نوره غاية ذكر الله، وحياة من سبّحولو في كلام الله، عيسى ومحمّد لأجلهم أنزل الإنجيل والقرآن”.
وأخرى وليست أخيرة، تقول: “لمن توفي النبي يا ما بكت سادات. حزنت ملوك السما والعرش يوم الممات. والصالحين يا محمد شالوك على الرايات...”.
زوار الليل هم، يسبقون الفجر بأصواتهم تتردد في الأرجاء وبدقات الطبول، يعيدون الصائمين إلى زمن جميل، وفيما عيون النسا نائمة تبقى عيونهم مستيقظة، بعضهم يجري تدريبات للأناشيد التي سيقولها، وبعضهم يرى في النزهة الليلية هذه فرصة لاستعادة طقوس قديمة أو للسير في الشوارع المكتظة نهاراً. صوتهم وحده يخرق سكون الليل “إصحى يا نايم” فيصحى الصائمون للقاء الأحباء على السحور.