نيبال الحايك
على طريق الشام الدولية، وتحديداً في شتورة، صفحة من حياة بديعة مصابني الراقصة وراعية النجمات الموهوبات. حين ينبسط الطريق مع سهل البقاع، يطل اسم بديعة مصابني مرتفعاً فوق مطعم صغير، وعلى بعد أمتار في بلدة جديتا مطعم آخر باسمها أيضاً، وعنهما يحفظ المسنون في تلك المنطقة قصصاً كثيرة، يعرفون الفنانة الكبيرة من خلالها. يروون حكاياتو “خبريات” عن الأيام الأخيرة للراقصة الأشهر في العالم العربي خلال النصف الأول من القرن الماضي. وديعة جورج مصابني التي يحفظ التاريخ حتى اليوم اسمها “المعلق” على المحلين اللذين كانت قد افتتحتهما على الطريق الدولية لبيع السندويشات.
الراقصة التي صنعت جزءاً من تاريخ الفن المصري لا يتذكرها الكبار في شتورة بما عاشته في صباها، لا يحكون إلا عن السنوات الأخيرة، لا يروون أن “ملكة الليل” صنعت نجمات الرقص الشرقي كتحية كاريوكا، وأقامت علاقات مع مسؤولين ورجال سياسة في مصر في الأربعينيات من القرن الماضي.
صاحبة أكبر ملهى في ميدان الأوبرا في القاهرة، صارت صاحبة مطعمين في شتورة التي حفظت لها مكانة وذاكرة لا تنسى. “هربت” بديعة من مصر إلى سوريا متنكرة بلباس ضابط جيش مصري بعدما أفلست وتراكمت ديونها وفق ما تؤكد معظم الكتابات التي أرّخت حياتها، فيما يقول البعض إنها خافت من مضايقات الملك فاروق لها. وقد دخلت إلى لبنان عن طريق سوريا واستقرت في مدينة شتورة سنة 1950، وأسست محلها التجاري الأول سنة 1952 في شتورة وبنت أيضاً منزلها المعروف اليوم بفيلا “عقل” التي جرفتها “الجرافات” قبل أسابيع. جميلة الحاج المعروفة بأم عمر (59 عاماً) تروي أنها كانت تمر صباح كل يوم مع جدتها وهي طفلة من أمام “محل” بديعة مصابني في شتورة، وكانت تراها جالسة على كرسي أمامه، وتقول: “كنت أرى الست بديعة بعزها وأناقتها، وكان الكبار يقولون لنا هذه هي بديعة الراقصة”.
وتتذكر أم عمر أن العصا كانت دائماً بيد مصابني، ولم تفارقها طوال أيامها الأخيرةويحكي إلياس سعادة (70 عاماً) من بلدة جديتا أنه كان يمضي معظم أوقاته جالساً مع السيدة وديعة، أو الست بديعة كما أصبح اسمها الفني لاحقاً «كانت امرأة عظيمة معروفة بكرمها وطيبتها، وكانت تعطي المال للمحتاجين والفقراء، وكانت تتمتع بشخصية قوية، وتطلب دوماً من عمال محلها الاستراحة والجلوس معها والتمتع بنفث دخان السجائر والنرجيلة والاستماع إلى الموسيقى والغناء”.
كانت بديعة مصابني تتألم خلال إقامتها في شتورة، ولكنها ــ كما يقول سعادة ــ كانت “تأمل دوماً عودة أيام العز والشهرة في مصر، وكانت تبدو سعيدة في نظر جيرانها وأصدقائها رغم الحزن الكبير الذي سيطر عليها”.
كانت بديعة مصابني خلال جلوسها أمام محلها التجاري في شتورة محط أنظار كل المارة والزبائن. فاسمها ووجودها في “المحل” جعلاه يتمتع بشهرة كبيرة ويحقق نجاحاً تجارياً.
وتقول حنّة الحلبي (75 عاماً) إن وجود بديعة في شتورة ــ جديتا أعطى المنطقة “تاريخا مميزاً”، وإنها كانت “امرأة بسيطة وكريمة... ولهجتها المصرية كانت قريبة من القلب”.
صار عمر “محل” بديعة الأول أكثر من 50 سنة، وما زال الآلاف يقصدونه ليتذكروا هذه السيدة التي صنعت مجدها بسحر رقصها وجمالها الرائع، وتذكر أم عمر أن “غرباء كانوا يقصدون شتورة لرؤية الست بديعة، وهي كانت تستقبلهم بضحكة حلوة”.
أمضت بديعة مصابني 24 سنة في شتورة قبل أن تودع الحياة الصاخبة وتدفن في منطقة البترون. ويقول إلياس سعادة إنها لم تشعر يوماً بالألم ولم تعان أمراضاً ومشاكل صحية و “قبل أن تموت وقعت على الدرج وأدخلناها إلى مستشفى تل شيحا في زحلة، ومن ثم فارقت الحياة، وكانت تبلغ من العمر حوالى 82 سنة”.