أنسي الحاج
من حقّ الأفريقي الأسود أو اللبناني أو السوري الأسمر أن يصبحوا مذيعين في التلفزيون الفرنسي وأن يقرأوا نشرة الأخبار متفوّقين بسرعة النطق ولثغة «الإغ» (الراء) على الباريسيين أنفسهم. لا شكّ.
لكن المريب هو الاستنساخ. فجأة يضعك في مناخ السَعْدَنَة.
كوكب يعود إلى النطنطة على حبال العولمة عوض أغصان جوز الهند.
كذلك في مشهد غلمان فيتناميين أو سعوديين يأكلون الهمبرغر ويطرشونه بالبويا الحمراء والصفراء وهم لابسون الجينز وعاقصون شعرهم طلوعاً كجبّ البلّان.
أو فيلم مصري أو هندي يفرض عليك مَشاهد أكشن هوليووديّة.
إلى آخرها.
أمّا اللبنانيّون فقد تعولموا قبل العولمة واستنسخوا قبل الاستنساخ، ومن يهبط من كوكب آخر إلى بيروت سيصعب عليه تحديد هويّة البلد الذي هبط فيه وستتقاذفه الآرمات من «حضارة» إلى «حضارة».
العولمة المثاليّة هي أن ينفتح الجميع بعضهم على بعض مع أصالتهم ومن دون تقليد. ليس هذا ما يحصل الآن، بل الانسياق السريع جدّاً نحو مجمّع قرود.
نقولها بلا عنصريّة، فنحن أقلّ الناس. وإذا انطوت على عنصريّة فلا بأس.
بين الحقائق هناك أيضاً، عدم المؤاخذة، حقائق عنصريّة.

عجيب أمر السماء! هي الحرّة المُطْلَقَة بهوائها، المُطْلَقَة المائجة بمجرّاتها المجهولة، المُطْلَقَة الراعية زرقتها وغيومها وما وراء نجومها، هذه الحرّة التي يتطلّع إليها الإنسان عندما يضيق نَفَسُه، استند إليها اللاهوت لـ «تنظيم» علاقة الإنسان بالله، بعدما كانت هذه العلاقة بنْت المزاج والظرف، وتطوَّرَ شكلُها فأضحت ثمرة التوق والحلم، وفي الحالين وغيرهما ظلّ يواكبها الخوف والرجاء.
عجيب أمر السماء! استند إليها اللاهوت ليرسم قوانين الإيمان وطقوسه، فيما هي، رمزيّاً وأسطوريّاً ونفسيّاً، مَسْكَنُ الله. السماء الحرّة المُطْلَقَة مسكن الله. أي إن الله هو الحريّة المُطْلَقَة.
هكذا تراه النفس والعين والشعر والملاحم والأدعية والكتب الدينيّة. والقول إنه في القلب والوجدان لا ينفي وجوده أيضاً أينما طاب له (أو لك) تضاف إليها السماء دوماً. الفوق هو قطب الابتهال وذروة ما تصعّده الأفئدة.
إذاً، الله المنشود هو المتماهي مع هذا المدى اللانهائي، هو هذا الهواء الكاشح للغمّ، وهذه اليد الموقفة فعل الخَنْق. الله والحريّة صنوان، الله رئيس السماء الحرّة المُطْلَقَة الطَلْقَة العليا المحيطة الشاملة، الله إذاً هو الحريّة، والحريّة زينة نظام الكون، وهواء رئتيه، وخمر شفتيه، وخاتمة مطافه، وبدء مطافه من جديد.
والحريّة لا تُملى بنصوص ولا يُملى عليها. إن الله انعتاق الإنسان من كل ضيق، ومن التعصّب لأي شكل من أشكال تنظيم العلاقة بالله التي وضعها البشر.
انظرْ إلى هواء السماء.

المخيف في سفْر التكوين، أول كتب التوراة، هو أنه إن لم نعتبره نسج خيال، فلا بدّ من التسليم، منطقيّاً، بأنه «حقيقي».
لا بتفاصيله الروائيّة بل بمغزاه: العدوّ الأول والأكبر للإنسان هو المعرفة.
الخطيئة هي إساءة الإنسان إلى نفسه عبر تمزيقه معاهدة السعادة. الشرّ هو الانقياد إلى الوهم، وَهْم السلطة، عوض البقاء في حضن الجهل، ينبوع الغبطة وضمان الخلود.
لقد هوى الإنسان هَوَيانَهُ ذاك، من ثقب حَفَرَتْهُ المعرفة في الجهل، حفره الوعي في فردوس اللاوعي...

يصيح صائحون ضدّ مبدأ التلقّي داعين إلى المشاركة. التلقّي، في رأيهم، استسلام يسلب الإنسان حقّه في الفعل. وهذا انحطاط.
صدْقاً، ألا نبالغ؟
هل هناك أَرْيَح من التلقّي، من الاسترخاء في مقعد الصالة المعتمة المكيّفة الهواء، ومشاهدة الفيلم؟ هل هناك أهنأ من الجلوس في البيت والعالم برّا يتصارع؟ هل هناك ألذّ من خَدَر الجلوس أمام التلفزيون في الثامنة مساءً وتلقّي سطل الأخبار؟
كان جورج شحادة، الشاعر والمسرحي اللبناني الجميل الذي لم ينل جائزة نوبل، يقول إن الجندي العادي هو أسعد الخَلْق لأنه يستطيع في الجيش أن يَشْتُم الجميع، فالجميع رؤساؤه، والرؤساء هم دائماً موضع حقد المرؤوسين. الذي تحت هو الأكثر حريّة لأنه الأقل مسؤولية.
قد يوصلنا هذا المنطق إلى تحبيذ الاستعمار، على اعتبار أنه يُعفينا من الحكم والمسؤولية. أي نعم. الاسترخاء التام. السعادة في العبودية. لا، عفواً، بل الحريّة الحقّة، حرية خلوّ البال، في العبودية، في الاستسلام لآخذي الزمام.
على الأقل تحت الاستعمار إذا أردتَ أن تعمل بطلاً تقاوم الاستعمار، لا تتذابح في حرب أهليّة.
استدراك: لا تتمادَ كثيراً في مشاهدة التلفزيون العربي. من حين إلى حين نقّل. اختر شاشات بلغات لا تفهمها. إنما السحر في الغريب. لا تتزوّج شيئاً.


حلمُ انتقام

في أعماق هذا الحبّ، ولو جَمَحَتْ به أهواء مرذولة، حلْمُ انتقام.
أريدكِ طيّعة ومع هذا أريد لكِ قوّة تُنسيني قوّتي، وحريّة تفوق حريّتي، وحقوقاً تزيد على حقوقي.
في أعماق هذا الحبّ حلم انتقامٍ لكِ. أخطأتُ مراراً حين زَعَمْتُ اختصاركِ في لعبة، ولو مزكّاة بالنجوى والغزل. ولكنْ لم يغب عن شعوري، وراء الأقنعة والفصول، أنّكِ المظلومة الكبرى، ولم أتوقّف عن اعتباركِ، حبّاً وحقّاً، القضيّة الأولى.
إن علاقتي بكِ هي زواج الغريزة والضمير، ورغبتي احتشاد الدم والروح والذاكرة.
وعندما أدعوكِ إلى المجون، فإنما أدعو الطليقة السيدة فيكِ أن تدخل معي شريكة مبدعة، لا مداهِنة ولا صاغرة. حرّة متدفّقة، ولا لحظة مكسورة.
في أعماق هذا الحبّ حلْمُ انتقام. ولا أشبع من النظر إليكِ.