أنسي الحاج
كان يُظَنّ أن مصائر الدول الصغرى تبقى رهن الخارج حتى تلمع في سمائها أسماء عباقرة من أفرادها فتُقيم لها سياجاً معنوياً، يحميها لأنه يوسّع حدودها الروحية إلى ما هو أكبر من كبرى الدول. رموزها غطاؤها، إشعاعهم يُخجل القوة.
لم يعد هذا فاعلاً في لبنان.
الدسائس باشرت نَخْر المعادلة عشية بدء «الحروب» عام 1975، بتشويه سمعة أسماء جامعة للشعب، وبالترهيب والرشوة والاغتيال، مما لم تُروَ حكاياته بعد.
ثم، مع تراكم الويلات وتوالي الانحدارات، لم يعد ثمة كبيرُ حاجة إلى أصابع الظلام: صارت بُنْيةُ المجتمع من الاهتراء بحيث تَخترقها أصغر رزمة لا من الإشاعة أو الرصاص بل من الدولار.
لم يَبْخُل لبنان بأسماء أكبر من حجمه، وفي جميع الحقول. لكن ما خُطّط لهذا البلد وما ابتُلي به من داخل فاسد ومحيط كاره و«مجتمع دولي» عديم الأخلاق، كان أقوى من أرواحه الحارسة.
والأمر اليوم أسوأ بعدما فَقَدَ لبنان آخر أساطيره ولم يلُح في الأفق طيف أساطير جديدة تحمل الشعلة بدورها.


على الشاشة مغنٍّ يتلوّى منشداً للحرب. يُرقّص رأسه ويُغمض عينيه التياعاً. نشوانُ كمن يموت بدلاً من ضائع الموت على الجبهة. يفنى هياماً بالموضوع أو بنفسه. «يُخلّد» المعاناة.
كثيرون من الكُتّاب والفنانين يظنون أن موت الآخرين موضوع لا للاستثمار التعبيري فحسب بل للتغلّب على الموت. يعتقدون أن الحرب مُلهمة، فرصة للإنتاج، وأن الكتابة (أو الغناء أو الرسم...) كلها تُجلّس ميزان الضمير. وتُربّح شعبية. كاد لا يَسْلم أحد من هذا المنطق.
وهو منطق غوغائي، إلاّ حين يذهب التعبير شطر فَضْح الخرافات والأكاذيب أو التوغّل في الممنوع.
لندع هذا. يبقى أن أعظم مستثمر للحرب، ولو كان هوميروس أو شكسبير أو هوغو أو تولستوي، هو دون مستوى شجاعة مَن يخوضها بجسده. ومع ذلك يصير خائضها وبطلها وضحيّتها تراباً منسياً، وأما كاتبها فلا يُخلّد فقط، بل يعيد صنع الحرب على هواه.
ذلك هو، مرّة أخرى، انتقام الفكرة من مجسّديها.
انتقام ظالم، أجل، على صورة الحياة ومثالها.


يُقدّم العقل الواعي للأقليات الطائفية موقفاً ثقافياً، مرتباً، هو في الغالب «تقدمي»، «علماني»، قومي. وكلما تلبدت الأجواء ينفجر العقل الباطن عند تلك الأقليات مسفراً عن مواقف غريزية جارفة لا سلطة لزعماء العقل الواعي عليها، بل غالباً ما يمالئها الزعماء ويركبون موجتها منذ طلائع عصر «النهضة» (التنويري الأوروبي المسيحي الماسوني ثم بعد قليل الفاشيستي والماركسي) تتخبّط المجتمعات العربية في هذه الثنائية. نخبة تؤلف الكتب والأحزاب، وجماهير تلبّي (أو تَصْنع) حركات الردّة أو الانغماس في التعصّب والانغلاق في زنازين الحماية.
وجود إسرائيل غذّى هذا التوجّه، كون الدولة العبرية استسلاماً تاماً لنداء الغريزة الدينية. هذا الوجود الذي شكّل منذ البداية استفزازاً للغريزة الدينية عند الآخرين قاومته طويلاً مناعة «المدنيين» والعصريين من الحكام والمثقفين العرب وحاربت ارتداداته العربية وقمعتها أحياناً قمعاً دموياً. ومن المضحك أن جموح الغريزة الدينية العربية بدأ يبلغ الذروة مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، بينما العالم «الآخر» يندفع نحو آفاق حداثة مدوّخة، ولو رفضنا عدوانها على الهويات الحميمة للشعوب. وأكثر ما يثير القهقهة في هذا الفيلم المجنون هو أن أميركا هي التي تقود بيد صاروخ العولمة الصاعق، فيما باليد الأخرى تقود قطارات الأصولية الدينية نحو ما تعرف وما لا تعرف.


عديم الحريّة لا يَخْرج من عرينه. يخيفه نداء الغابات. أبوابه موصدة لا يَفْتحها إغراء. الأمان هو فضاء عديم الحريّة.
وأنت، أيها المُفْتِن، تصرّ على تحقيق حريّة الآخر لا من أجله ــ فهو يفضّل المَخْبأ عليها ــ بل من أجلك كي تصطاده...


حبّذا لو يُكْتَب بإيقاع موسيقى موزار: سرعةُ هواءٍ مُغمض عينيه من قوّة خَرْقه جدارات صوته.


المتحرر من عقدة النقص مرتاح وغيره مُرْهق به.


ـ ما هي حدودكِ؟
ـ لا أعرف أواخر للأشياء. أواخر الأواخر بدايات.
ـ كيف تهربين مما حولنا؟
ـ لا حاجة للهرب. عالمي محميّ، لا يخترقه إلاّ ما أختارُهُ من انعكاسات.
ـ ماذا يدور في رأسك حين يحدّق إليكِ رجلٌ بإعجاب؟
ـ أجهد حتى لا يرفع نظره عنّي. كل شيء في جسدي يتغيّر. أُصبح كتلة مغناطيس. وإذا توقّف عن التحديق إليّ أُسارع إلى البحث عن عينين بديلتين.
ـ وأية رسالة تريدين نقلها إلى الرجل حين تحدّقين أنتِ إليه؟
ـ أقول: حدّق إليّ حتى أعيش. العيون هي وطني.


خَزْن العنف وكَبْتُه يميّزان بعض العيون بسحر يُرْهب، يُرْعش الجماد. متصوّفون كثيرون تلتهب نظراتهم وتشعّ لا بالخمرة الإلهيّة بل بجمر العنف المحوَّل إلى فرن الداخل الذَهَبيّ.


شمس العمر تصير قمراً
ثم نجوماً
ثم قناديل.
قد تعود القناديل شمساً تحت ضوء عينين معشوقتين عاشقتين.
عاشقتان... ولو بفضْل صعوبة تمييزهما حقيقة الأعمار في لجج العتمة.


أكثر ما يُعلّم الشجاعة هو اليأس. أكثر ما يُعلّم اللين هي الصدمة. أكثر ما يُعلّــم الحب هو الضجر. أكثر ما يُعلّّم هو فوات الأوان.