لا تقتصر آثار العدوان الإسرائيلي على الجنوب على البشر والحجر، بل تطال التاريخ أيضاًََ. فإبان اجتياح 1982 نُهبت مواقع أثرية عديدة، بعضها مدرج في لائحة الجرد العام والآخر مجهول. ولا يستطيع لبنان أن يتأكد من المسروقات أو يقدر قيمتها إلا إذا تناولها باحثون إسرائيليون وحدّدوا مكان استخراج القطع كما هي الحال بالنسبة إلى فسيفساء النبطية
جوان فرشخ بجّالي

“خلال أعمال حفر روتينية كانت تنفذها فرقة صغيرة من جنود الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان في شباط 1984، عُثر مصادفة على أرضية من الفسيفساء في حقل يقع شمال شرق مدينة النبطية”، بهذه الكلمات افتتح عالم الآثار والأستاذ في جامعة بن غوريون الإسرائيلية باو فيغاراس، مقالته “أرضية فسيفسائية من النبطية في جنوب لبنان” التي نشرت في مجلة “ليبار آنوس” الصادرة في القدس المحتلة عام 1985.
قال فيغاراس الكثير عن الفسيفساء التي كشف الجنود عن ثلثها المقدّر بعشرين متراً من خلال صور كان قد زوّده بها الضابط المسؤول عن “الحفريات”، وهو احتياطي في الجيش يعمل مدرساً للفيزياء النووية في الجامعة نفسها.
راح العالم يصف بالتفصيل الفسيفساء التي عدّها تحفة “مميزة بجمالها وحالة الحفظ الممتازة التي ما زالت تتمتع بها” قبل أن يتطرق الى دراستها علمياً، غافلاً عن تحديد الموقع الأثري الذي اكتُشفت فيه.
كانت الفسيفساء مزينة برسوم لبشر وحيوانات مفترسة وداجنة، إضافة إلى عدد كبير من الأشكال الهندسية. ووصفها باو فيغاراس قائلاً: “تظهر الفسيفساء طريقة مثيرة في جمع الألوان والأشكال تقوم على تناقض الألوان لإبراز الأشكال... ... وقد ظهر فيها ثور ونمر مرقط رُسما داخل حلقتين يتوسطهما شاب برداء قصير، يحمل في يده اليمنى سلة أو دلواً وفي اليسرى عنقوداً ضخماً من العنب الأحمر». وأكثر ما يميز هذه الفسيفساء نص إغريقي مؤرخ من أربعة أسطر يكشف الستار عن بعض من جوانب الحياة في المنطقة التابعة لمدينة صيدا في القرن السادس بعد الميلاد.
مميزاتها تجعل من هذه الفسيفساء قطعة فنية نادرة لا تقدّر بثمن ينبغي عرضها في المتحف الوطني. لكن، هنا تكمن المعضلة. فلا أحد يدري ماذا حلّ بهذه التحفة، ولم يحدد الموقع الذي اكتشفت فيه”.
لا شك في أن عالم الآثار الاسرائيلي باو فيغاراس مطّلع على “اتفاقية لاهاي” لحماية التراث الثقافي في حالات النزاع المسلح، وهو مدرك تماماً أنه وفقاً للبند التاسع من الاتفاقية، لا يحق للدول المحتلة تنفيذ حفريات أثرية في الأراضي التي تحتلها، ولا يحق لها بالتالي انتشال قطع أثرية أو نقلها أو حتى الكتابة عنها.
حماية التراث الثقافي من واجبات الدولة المحتلة، وخصوصاً إذا وقّعت على اتفاقية “لاهاي” كما هي الحال بالنسبة إلى إسرائيل. باو فيغاراس منح نفسه حق الأسبقية في نشر دراسة عن الفسيفساء.
ونصّب عالم الآثار الاسرائيلي نفسه مرجعاً للمعلومات عن هذه القطعة النادرة، وحاول “التخفيف من ذنبه” بإعطاء كل التفاصيل الممكنة عن هذه الفسيفساء، فزوّد الدولة اللبنانية معلومات كافية تسمح لها بتقصّي الحقائق عن مصيرها عبر الإنتربول الدولي، وباسترجاعها إن كانت قد سُرقت أو عرضت للبيع. والجدير بالذكر أن أمثال هذه الفسيفساء في لبنان لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.
يتركّز الجدل الدائر الآن في الأوساط المطّلعة على هذه القضية، على تحديد الموقع الأثري الذي اكــــــتُشفت فيه الفــــسيفساء.
ويظنّ البعض أنها اكتشفت في دير عجلون الواقع في أقصى شرق بلدة كفررمان (قضاء النبطية)، وقـــــد تناول هذا الموضــــوع الزميل كامل جابر في كتابه “ذاكرة الجنوب، عين وأثر”.
ووصف جابر الموقع القديم قائلاً: “لم يبق منه غير أحجار ضخمة متراكمة، وقواعد أعمدة، وجرن كبير، مع صخرة منحوتة على شكل صليب، مما يدل على اشتقاق اسمها من دير كان هناك”. ويشتهر دير عجلون، بحسب روايات الأهالي، بالكنوز وأساطير الجنّ التي كانت تمنع الأيادي من أن تطال هذه الكنوز “المرصودة”. لكن يبدو أن سحر الجنّ لم يكن فعّالاً مع الإسرائيليين، هذا إذا كان دير عجلون فعلاً هو الذي احتضن الفسيفساء، إذ إن علماء آثار آخرين يرجّحون أن تكون قد نبشت من مواقع أثرية أخرى في ضواحي النبطية.