عمر نشابة
كانت الساعة العاشرة ليلاً وكنّا على ارتفاع عشرة آلاف قدم عن سطح الارض والأنوار تشعّ من بعيد، وإذ بأحد الاطفال يصرخ “بيروت! بيروت! فينا نشوف كورنيش المنارة!”… (أو ما بقي منها بعدما قصفتها الطائرات الاسرائيلية)... اندفع الركاب نحو نوافذ الطائرة بصمت وعيونهم تفتّش في وهج الاضواء البعيدة عن شكل يوحي لهم ببناية أو شارع أو دكان ما يعرفونه. لم يستمع احد لنداء قبطان الطائرة: “آنساتي سادتي، سنبدأ هبوطنا في مطار بيروت. الرجاء ربط الاحزمة وتجليس المقاعد” حتى طلبت المضيفات من الركاب التزام مقاعدهم فيما ارتسمت على وجوههنّ ابتسامات اختلفت عن ابتسامات الترحيب بالركاب على متن الطائرة في لندن. ففي لندن لم يكن جمال المضيفات صادقاً مع أن مظهرهنّ كان أكثر اناقةً وكان احمر الشفاه مرسوماً بدقّة فائقة… وعلى مشارف بيروت تغيّرت تعابير الجمال… فبين المدينة والمضيفة تقاسم لأدوار الإغراء… والشهوة تقترب مع الاضواء التي تتحوّل الى بيوت وسيارات ودكاكين ومعالم اتعبتها الحرب لكنها ما زالت تبتسم…
حطّت الطائرة على أرض مطار بيروت الدولي، الذي يسمّونه اليوم مطار رفيق الحريري، بعد رحلة طويلة دامت سبع ساعات من لندن مروراً بالعاصمة الاردنية عمّان. وعلا التصفيق في الطائرة بينما قال القبطان: “أهلاً وسهلاً بكم في بيروت” وأضاف بعد ثوانٍ كأنه أراد أن يشاركنا مشاعره “اهلاً وسهلاً بكم في بيروت ستّ الدنيا”…
لم تفارق عيوننا النوافذ... كنا نرى شاحنات وعمّالاً يعملون على إصلاح مدرج المطار الذي دمّر جزءاً منه الطيران الغازي... دمعت عيون الركاب والمضيفات معاً وعلت جولة ثانية من التصفيق الحادّ شارك فيه هذه المرّة ركّاب الدرجة الاولى الذين يلتزمون صمت الخواجات…