عبادة كسر
يلفّ الهدوء مرتفعات رأس العين في بعلبك، وينسحب إلى منزل عبدو مرتضى الحسيني صاحب اكبر مكتبة خاصة في لبنان. هدوء يشبه قلق الرجل الثمانيني على جنى العمر، على ثروته التي تزيد على مليون كتاب.
يعشش تعب السنين في جسد الرجل الذي لا يزال رغم آلامه يحلم بنشاط ثقافي في بعلبك يعكس تاريخ المدينة الثري، وبأن تصير مكتبته عامة ومقصداً يحتضن كل فاعليات بعلبك الفكرية والثقافية والسياسية والاهلية. وهي المكتبة التي لم يستطع العدوان الاسرائيلي على بعلبك أن يهزمها. سقط بعض زجاج المنزل القديم المتهاوي الذي يحتويها. الرفوف التي وصلت حتى السقف ما زالت على حالها، وغبار الزمن المتكدس على الكتب ازداد بفعل القصف، لكن الكتب كلها ما زالت هناك في غرفها تتسلل إليها أشعة الشمس من بين أوراق الدالية التي تظلل المنزل كله.
كتب التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآداب والعلوم والرياضيات والسياسة و... كانت هاجس الحسيني طيلة أيام العدوان. في فراشه كان يروي قلقه على مكتبته، فيذهب ابنه جهاد كل يوم قاطعاً الطريق من رأس العين إلى سوق بعلبك، حيث المكتبة، متحدياً خطر القصف ليلقي نظرة عليها ويعود إلى والده مطمئناً إياه على المكتبة وعلى كتب “الرفيق لينين” التي ظلت في أعلى رف طويلاً.
“حجر أساس” المكتبة وضعه عبده مرتضى وهو لا يزال في السابعة من عمره، يوم حمل مصروفه وراح يشتري الكتاب. “أول مجموعة كتب اشتريتها كانت تركية، رغم انني لا أجيد اللغة التركية، وأقدم كتاب في مكتبتي طبع منذ اكثر من 300 سنة وهو كتاب هندسة بناء باللغة الفرنسية. اما احدثها فهي مجلات مصرية”، حكاية رددها عاشق الكتب مراراً.
مكتبة عبدو مرتضى الحسيني هي في الواقع مجموعة مكتبات، كل واحدة منها تحكي قصة الحياة في تشعّب العلوم... الأدب قديماً وحديثاً، رواية ومقارنة وتحليلاً... عربياً وأجنبياً، والفلسفة وعلم النفس والاجتماع، والاقتصاد بفروعه والتراجم والسير والقواميس والمسرح والقصة والسينما والفنون الجميلة والاديان. إن نسبة 85 في المئة من كتب المكتبة باللغات العربية والفرنسية الانكليزية، والباقي تتوزعه لغات اخرى: اليونانية واللاتينية والالمانية والايطالية والفارسية والتركية والروسية والهندوسية والبولونية...
عام 1955، فُتحت امام السيد عبدو مرتضى الحسيني الابواب وخصوصاً بعد مؤتمر هلسنكي لأنصار السلم الذي شارك فيه ممثلاً لبنان، وحيث تعرّف الى مئات الشخصيات الفكرية والعلمية والسياسية والعمالية، وبنى معها علاقات وثيقة، وحصل على مئات العناوين والصحف والمجلات والاذاعات، وبات لديه اكثر من 15 الف عنوان. وباشر بالمراسلة على اساس تبادل الكتب أولاً ثم الشراء، وتلقّى الهدايا كتباً من كل اقطار العالم.
“السيد” كما يناديه أهالي بعلبك، يزيد الحزن من آلامه، فملازمة الفراش تمنعه من اللقاء اليومي بالمكتبة، ومنذ بداية العدوان صار ابنه يحمل اليه بعض الكتب “يفلفشها”، يحاول قراءة بعض المقاطع، ويطمئن إلى أن مكتبته لا تزال بخير، يغمض عينيه ويستعيد حلمه القديم نفسه، أن تتحول مكتبته إلى مكتبة عامة وأن تبقى صامدة في بعلبك.