«الشارع ممتد على مدى البصر، يلفظ جوفه الناس والحيوانات والجماد، وكنت أسمع صوت أنفاسهم وهدير حركتهم وهم يفسحون لي طريقاً كي أمر دون أن ينظروا تجاهي أو يقتربوا مني. ثم بدأت أرى خلفهم مساحة بيضاء تماماً منزوعة الهواء. ريحها ساكن. ثم رأيت خلقاً كثيراً يلوحون لي من خلف هذه المسافة، يوسف حلمي وابنه الشهيد. أمي وجوليا. هند وسامنثا. وعندما دخلت هذه المساحة توقف كل شيء، فلم أعد أسمع أو أرى إلا محض فراغ».
بهذه الكلمات يصف مكاوى سعيد (1956-2017) رحيل بطل روايته «تغريدة البجعة» (2006) التي يرثي فيها نفسه، ويتوقع نهاية رحلته، كأبناء جيله، وحبيبته هند التي اعتبر أن موتها موت شخصي له. لم نقرأ الموت في عيني مكاوي، هو المحب للحياة، المولع بالمحبة. ربما لهذا تجاهلنا حضور الموت في كتاباته. وربما لهذا أيضاً عندما سمعنا الخبر لم نصدقه. لساعات، كان هناك إحساس أن ثمة شيئاً خطأ، أو مزحة ثقيلة. مكاوي سعيد يغيب، هو الذي عاش خفيفاً، هائماً في تأمل شوارع القاهرة، وبناياتها، وشخصياتها المهمشة.

لم نكن نحتاج إلى مواعيد مع صاحب «تغريدة البجعة». كانت مقاهي وسط القاهرة، عنواناً ثابتاً له، تحديداً «زهرة البستان». لذا لم يكن مهماً أن ترتب مواعيد مع مكاوي سعيد. قطعاً سيكون هناك، أو في مقهى مجاور، أو في الطريق بين المقهى وشارع القصر العيني حيث عنوان منزله، أيضاً بالقرب من «مركز» النشاط الثقافي والإبداعي في وسط البلد!
رحل مكاوي ولم يكتب ما تمنى. في جعبته كتب وحكايات وأفكار كثيرة، كلها عن موضوعه الأثير «وسط البلد». كان أشبه بمؤرخ وسط القاهرة، وحكاياتها وأماكنها السرية، وشخصياتها المهمشة المنسية. يعرف كواليس ما يدور في العالم السفلي منها، هو الذي ولد وعاش طفولته وسنوات تكوينه الأولى في منطقة عابدين في وسط القاهرة. عاش فيها كل سنوات الطفولة، ولأنه يؤمن بأنّه لا ينبغي للكاتب أن يكتب إلا عما يعرف. لذا دارت رواياته عن تلك المنطقة. ولم تكن كتابته عن وسط البلد، بل عن المهمشين داخل هذه المكان.
حين كان طالباً في كلية التجارة في نهاية السبعينات، بدأ كتابة الشعر، متاثراً بصلاح عبدالصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، حتى حصل وقتها على لقب شاعر الجامعة. بعد تخرجه، فارق الشعر ليبدأ بكتابة القصص القصيرة متأثراً بيوسف إدريس وتشيخوف وهيمنغواي. في تلك الفترة، تعرّف إلى القاص يحيى الطاهر عبد الله الذي قرأ أعماله، وأرسلها للنشر في بعض المجلات العربية. بعد ذلك، أصدر أول مجموعة قصصية بعنوان «الركض وراء الضوء» (1981). ثم كتب روايته الأولى «فئران السفينة» التي تناولت أحداث الحركة الطلابية في الجامعة في السبعينيات. ظلت الرواية قرابة ست سنوات في مخازن هيئة الكتاب. في عام 1991، حصل مخطوط الرواية على «جائزة سعاد الصباح». من هذا التاريخ، اتخذ قراره بالتفرغ للكتابة، ليترك عمله كمحاسب. كان القرار كارثياً، وفكر في التراجع عنه. عانى بسببه طويلاً قبل أن يصدر روايته «تغريدة البجعة» (2007) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية. مع ترجمة الرواية، بدأ مكاوي في التحقق كأديب شهير. كان يضحك متذكراً تلك السنوات: «أغلب حياتي عشتها مغموراً».
في فترات التوقف، أنجز عدداً من الأفلام التسجيلية، من بينها سيناريو فيلم «الجورنالجي: محمد حسنين هيكل»، و«البحر ليس بملآن» عن الروائي المصري جميل عطية إبراهيم، و«النسر الشهيد» عن الجنرال المصري عبد المنعم رياض... كما انشغل بتتبع حكايات المهمشين في أكثر من كتاب مثل «البهجة تحزم حقائبها» أو في «أحوال العباد»، «مقتنيات وسط البلد»، و«كتاب التحرير» الذي قدم فيه بورتريهات لشخصيات شاركت فى الثورة المصرية التي كان مكاوي واحداً مما تقدموا صفوفها الأولى. أول من أمس، غادر «ميكي» منزله كما اعتاد، ذهب إلى مقهى «زهرة البستان» ثم إلى «أتيلييه القاهرة». هناك شعر ببعض الآلام في بطنه، رفض نصيحة أصدقائه بالذهاب الى الطبيب. ودعهم، وألقى نظره أخيرة إلى أماكنه التي عشقها ثم استوقف تاكسياً ليعود به إلى منزله. في الصباح غادرنا، كأنه في روايته الأخيرة «أن تحبك جيهان» يصف أيضاً مشهد رحيله: «كنت بمفردي أوغل في أماكن بدأت تلفظ الناس منها ثم بدأت أحس بأن الأرض من تحتي تزوم وتهتز وبأن زلزالاً كبيراً على وشك القدوم بنفس مقدماته التي سمعتها زمان. وضقت لوهلة عندما انتبهت إلى أن شيئاً دافئاً يسيل على ظهري، ثم اكتست البيوت والأرض التي أجتازها باللون الأخضر وبأعواد مليئة بالثمار والزهور (…...) ثم أحسست بنفسي في غرفة باردة جداً. ورغم أني لم أشعر بالبرد على جسدي لكن رأيت قطرات الماء المتناهية الصغر تكسو الدواليب الحديدية التي تغلف جدران الغرفة».