باريس | عن 67 عاماً، رحل الإعلامي والسينمائي والمناضل اليساري الفرنسي باتريس بارا (الصورة). صاحب «ماذا رأيتم من سراييفو» (جائزة «بافتا» التلفزيونية البريطانية – 1994)، الذي بدأ صحافياً في إذاعة RTL، منتصف السبعينيات، قبل أن ينتقل إلى إخراج وإنتاج الأفلام التوثيقية، عُرف أيضاً بمواقفه اليسارية الراديكالية ونضالاته المعادية للعولمة.
لم تكن تلك النضالات وليدة المصادفة، فهو سليل عائلة كان لها دور بارز في صفوف الحركات المعادية للاستعمار، خلال النصف الأول من القرن العشرين. والده، الإعلامي والمناضل الحقوقي، روبير بارا، ووالدته الناشرة دونيز بارا، أسهما الى جانب بيار كوريال، الأب البيولوجي للمفكر اليساري ألان غريش، في تأسيس «المنظمة الفرنسية لمحاربة الاستعمار»، التي اشتهرت إعلامياً باسم «شبكة كوريال». لعبت الأخيرة دوراً فاعلاً في دعم قضايا التحرر الوطني في دول العالم الثالث، وبالأخص في الجزائر ومدغشقر وفلسطين.
في عام 1976، انتدبت إذاعة RTL باتريس بارا، لتغطية الحرب الأهلية في لبنان، وهو ما زال صحافياً مبتدئاً. لكن الشهرة النضالية لوالديه، جعلت الأوساط الفلسطينية تحتضنه بسرعة. هكذا، ارتبط بصلات وثيقة مع الزعيم الراحل ياسر عرفات، وغطى إلى جانبه أحداث الاجتياح الاسرائيلي للبنان، في صيف 1982، وغادر معه على متن الباخرة نفسها التي نقلته إلى المنفى التونسي، ثم عاد ليلتقي «أبوعمار» ومقاتلي «فتح» مجدداً، خلال حصار طرابلس، في خريف 1983.
من الإذاعة، انتقل إلى الصحافة المكتوبة ثم إلى التلفزيون، في مطلع التسعينيات. اشتهر بتحقيقاته في صحيفة «ليبراسيون» عن الفقر والمجاعة في إثيوبيا والصومال والسودان. ثم خاض تجربة تغطية الحروب مجدداً، خلال حصار سراييفو، على مدى عامين (1993-1995). تركت تلك التجربة القاسية جراحاً عميقة في نفسه تعرّض بسببها لنوبات حادة من الاكتئاب كان يتعافى منها ثم لا يلبث أن ينتكس، الى غاية الأزمة الأخيرة التي دفعته لوضع حد لحياته كما كشف عن ذلك مقربون منه، على رأسهم المخرجة التقدمية سيمون بيتون، التي أنتج باتريس بارا فيلميها التوثيقيين الشهيرين «فلسطين» و«المهدي بن بركة».
بعد تجربة سراييفو، انتقل باتريس بارا إلى الإنتاج السينمائي، من خلال تأسيسه شركتي Point du Jour وArticle Z اللتين أسهمتا، إلى جانب فيلمي سيمون بيتون المذكورين، في إنتاج عدد بارز من الأعمال التوثيقية، من «فلسطين بث مباشر» لرشيد مشهراوي (2001) إلى «جزائر» لمالك بن سمّاعين (2003).
مع بداية الألفية الجديدة، انخرط باتريس بارا في صفوف الحراك اليساري الجديد المناهض للعولمة. أسّس تباعاً العديد من المنظمات غير الحكومية، من Bridge Initiative International، التي أطلقها عام 2003، إلى «المنتدى العالمي للنهضة المواطنية»، التي خرجت من رحم حراك Nuit Debout المناهض للهجمة الليبرالية في فرنسا، في ربيع 2016.
وقبل أشهر قليلة من رحيله المفاجئ، أطلق جمعية غير حكومية جديدة تُعنى بإعادة تأهيل الشباب المهمش في أحياء الضواحي الفرنسية، أسماها cités d’or. ومن بين آخر ما كتب، نص دوَّنه على موقع هذه الجمعية، جاء فيه: «في نهاية المطاف، أنا الذي كنتُ أريد فهم العالم، بل أكثر من ذلك الإسهام في فهم الآخرين له، شعرتُ بأنه بات مهماً، أكثر من أي وقت مضى، الحؤول دون جعله (العالم) «استعراضاً» نتابع بشاعته عن بعد، وبشكل عارض، ثم نواصل طريقنا غير آبهين».