القاهرة | في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، ألقى الفنان المصري جميل راتب (1926 ــ 2018) كلمة مقتضبة في مناسبة تكريمه في «مسرح الهناجر» في دار الأوبرا في القاهرة، حيث عُرض فيلم وثائقي عن مشواره تحت عنوان «الجميل». في هذه الكلمة، قال راتب عبارة مؤثرة للغاية: «أنا خادم للثقافة وخادم للشعب». هكذا، اعتبر الممثل المخضرم وقتها أنّ ما يقدّمه من أفلام ومسلسلات ومحتوى فنّي عموماً هو خدمة للشعب، وبالتالي كان منطقياً أن يرد له المصريون ومحبّوه العرب التقدير نفسه بأن يستقبلوا خبر وفاته صباح أمس الأربعاء بحزن كبير. ودّع راتب الحياة في ساعة مبكّرة من صباح أمس بعد صراع مع المرض لم يمنعه من البقاء تحت الأضواء، بعدما احتفل مع مجموعة من الأصدقاء بعيد ميلاده الثاني والتسعين في 18 آب (أغسطس) الماضي.بالعربية والفرنسية، أُعلن مدير أعماله هاني التهامي خبر الوفاة عبر فايسبوك. ولطالما ظهر التهامي بكثافة إلى جوار راتب في سنواته العشر الأخيرة، وكان الرابط بيه وبين الوسط الفني والصحافيين، فيما لعب دوراً بارزاً في نفي الشائعات التي طالت حالته الصحية، خصوصاً في السنوات الثلاث الماضية.
كانت صحة جميل راتب قد تدهورت بشدّة خلال الأسبوعين الأخيرين، وانطلقت أخبار تؤكد أنّه فقد صوته تحت تأثير الشيخوخة، ليسافر بعدها إلى باريس لتلقّي العلاج، لكنّه والأطباء اتفقوا على العودة إلى أرض مصر ليُنهي حياته فيها، وفق ما قال في تصريحات نشرتها جريدة «الوطن» قبل 24 ساعة من وفاته. في هذا الحديث، أكد راتب أنّ وصيّته كانت عدم تركه يموت في مستشفى أوروبي تحت أي ظرف، وأن يقام معرض يضم صوره وجوائزه بعد وفاته. وعلى الرغم من مطالبته في التصريحات كلّ محبيه بحضور عزائه، لكن مدير أعماله أكد بعد الوفاة أنّه لم يوصِ بإقامة عزاء، مكتفياً بالجنازة التي خرجت من الجامع الأزهر، فيما أعلنت «نقابة الممثلين» أنّها تدرس إقامة عزاء على نفقتها للممثل القدير.
خروج الجنازة من «الأزهر» والإصرار على أن يوارى جثمانه في ثرى مصر، ساعدا في نفي أشهر شائعتين طالتا جميل راتب على مدار 70 عاماً قضاها في البلاتوهات. فبعضهم كان يظنّ أنّه من أم فرنسية وقد ينهي حياته في باريس، غير أنّ راتب ينحدر بالفعل من أب وأم مصريين ضمن عائلة أرستقراطية ساعدته على الدراسة في فرنسا واحتراف التمثيل هناك لسنوات عدّة، قبل العودة في السبعينيات إلى القاهرة.
على الرغم من الأفلام والمسرحيات التي قدّمها في فرنسا وتونس وغيرهما من دول العالم خلال سنواته الفنية الأولى، نجح جميل راتب في كسر حاجز الغربة، والاندماج في الوسط الفني المصري، وتقديم العديد من الشخصيات الخالدة في ذاكرة الجمهور، أبرزها على الإطلاق «البهظ بيه» في فيلم «الكيف» (1986 ـــ إخراج علي عبد الخالق)، الذي يعدّ أبرز تاجر مخدرات في تاريخ السينما المصرية. وتألّق راتب في شخصية «مفيد أبو الغار»، السفير المثقف الذي واجه حرباً عاتية من بائعة السمك سناء جميل في مسلسل «الراية البيضا» (1988 ـــ إخراج محمد فاضل)، كما قدّم راتب مع جميل أيضاً مسرحية «زيارة السيد العجوز» على «مسرح الهناجر». وبرز كذلك في شخصية «أبو الفضل جاد الله» ضمن أجزاء مسلسل «يوميات ونيس»، أكثر أعمال الممثل محمد صبحي نجاحاً على مستوى التلفزيون.
من الشاشة الصغيرة إلى السينما، فرض جميل راتب نفسه على أفلام كبار النجوم، منها «البريء» (إخراج عاطف الطيب) أمام أحمد زكي في 1986، و«طيور الظلام» (إخراج شريف عرفة) في شخصية الوزير «رشدي الخيال» أمام عادل إمام في 1995، و«الساحر» (2001 ــ إخراج رضوان الكاشف) أمام محمود عبد العزيز .
حياة الفنان جميل راتب الشخصية لم تخل من الدراما، إذ اتفق مع زوجته الفرنسية على عدم الإنجاب حتى يتفرّغ للفن، ولم يشكُ لاحقاً من الوحدة، كما كانت له آراء سياسية معارضة لما يجري في مصر، لكنّه في الوقت نفسه لم يتورّط في العمل السياسي. أما عن الموت، فقال راتب في تصريحات تلفزيونية قبل نحو عامين إنّه يفضّل أن يموت من دون عذاب، مضيفاً: «الموت مصير كل إنسان وهحصّل الناس اللي كانوا جنبي وبيحبوني، ويمكن أقابلهم في العالم التاني». وتابع أنّه يفتقد الكثير من الأشخاص الذين رحلوا، مثل أبيه وعدد من أصدقائه، مشيراً إلى أنّ تصوّره لما بعد الموت هو أنّنا «سنحيا في عالم آخر نشارك فيه الأشخاص الذين سبقونا وكنّا نحبّهم في الدنيا».