أغسطس ريتشارد نورتن

  • 0
  • ض
  • ض

ماتَ قبل أيّام الأكاديمي الأميركي أغسطس ريتشارد نورتن. نورتن كان في الجيش الأميركي في فيتنام، قبل أن يُفرز في أواخر السبعينيات في قوّات الـ«يونيفيل» في جنوب لبنان. التجربة غيّرت حياته وفكره. وقع في حب أهل الجنوب، وصمّم على دراسة الشرق الأوسط. تعرّف على عدد كبير من الأهالي، وكان قريباً جداً (عاطفيّاً) من حركة «أمل» التي اعتبر أنّها تعبّر عن معاناة أهل الجنوب. كان قريباً تحديداً من داوود داوود، وتعرّف أيضاً على عبد الأمير قبلان. تأثّر بآراء داوود داوود، كما أخبرني أكثر من مرّة. تعرّفت عليه في منتصف الثمانينيات عندما كان يعدّ أطروحة الدكتوراه عن الشيعة في لبنان، وبصورة خاصّة عن حركة «أمل» (تُرجم الكتاب إلى العربيّة). دافع عن أهل الجنوب في وقت كانت فيه صفة الإرهاب ملازمة لهم في مرحلة خطف الرهائن (ولا تزال هذه الصفة ملازمة لهم بأمر صهيوني). وكان نورتن يتحدّث بإسهاب عن إجرام إسرائيل في الجنوب، إلى أن اتهم بأنه «وقع في حب السكان المحليّين»، وهي تهمة تلاحق هؤلاء الخبراء الأجانب الذين لا يعادون العرب. كان يغضب من الاستغلال الصهيوني لمعاناة أهل الجنوب. كنت أخوض معه نقاشات طويلة، وكنا نختلف (في ودّ): هو من منظور حركة «أمل»، وأنا من منظور اليسار اللبناني ــ الفلسطيني المتطرّف. كان أوّل منصب تعليمي حصل عليه في الكليّة العسكريّة في «وست بوينت». لم يكن سعيداً هناك، كما كان يشكو لي. إدارة الكليّة كانت تريد أن تستخدم معرفته بالشرق الأوسط وبجنوب لبنان خاصّة في موضوع دراسة «الإرهاب»، وكان يعترض على إدراج مواده في خانة تدريس الإرهاب. الخلاف بينه وبين الإدارة هو الذي دفعه للانتقال إلى جامعة «بوسطن» حيث بقي حتى تقاعده. زاد تعلّق نورتن بلبنان، والرجل الذي كان معروفاً بدفاعه الشرس عن حركة «أمل» بات معروفاً بدفاعه عن حزب الله أيضاً، خصوصاً بعد أن نشرت له دار نشر جامعة «برنستن» كتاباً عن حزب الله. قامت قيامة الصهاينة عليه وعلى دار النشر بعد نشر الكتاب ووصف بداعية الإرهاب. لكنه لم يساوِم ولم يهادن الصهاينة، وبقي على مواقفه. أدرجته منظمة «كامبس ووتش»، التي ترصد معاداة الصهيونية في الجامعات الأميركية، من ضمن الأساتذة الخطرين. كان نورتن مبدئيّاً، وعندما كنت في بداية عهدي بعد نيلي الدكتوراه أجد صعوبة في العثور على منصب تعليمي، لم ينصحني يوماً بتغيير مواقفي أو بمهادنة الصهاينة ــ كما نصحني عدد من الأساتذة العرب في أميركا (وبعضهم معروف جدّاً). شجّع نورتن الطلبة الجدد في دراسات الشرق الأوسط، وكان يعطي من وقته لمن يسأل. مثّل نورتن في الثمانينيات الموقف المضاد لمواقف فؤاد عجمي الصهيونيّة: وظهر في الكونغرس الأميركي مدافعاً عن اهل الجنوب فيما كان عجمي ــ المنحدر من جنوب لبنان ــ يقول عن الشيعة إنّهم انتحاريّون وعن السنّة إنّهم مجرمون (بالحرف، قال ذلك في شهادة أمام الكونغرس في منتصف الثمانينيّات. شعر نورتن بالقرف منه). أصيب نورتن بسرطان الحنجرة قبل سنوات، وتعامل مع المرض بشجاعة غريبة: كان يحدّثني عن طرق علاجه، وتغلّب على المرض بعد سنوات علاج. كان نورتن يزور لبنان دوريّاً، وآخر مرّة رأيته كان يجلس في مقهى «إتوال» مع صفيّة سعادة. تعرّف على الكثير من أساتذة الجامعات في لبنان. اتصل بي ذات مرّة من بيروت وسألني: لقد طلبوني للظهور على محطة «المنار»، ما هو الحكم القانوني للموضوع؟ قلتُ له: أنت تأتي من خلفيّة عسكرية أميركية وتسأل عربيّاً من خلفية تلاميذ جورج حبش؟ يا للمفارقة. أخبرته بأنّ القانون يمكن استخدامه من قِبل الصهاينة ضدّ أمثالنا المكروهين من الصهاينة بحجّة أن الظهور يمثّل دعماً لمنظمة إرهابيّة (حتى «المنار» مصنّفة على أنها منظمّة إرهابيّة هنا). تضايق نورتن، إذ قال لي إنّه يريد أن يظهر على شاشتهم تحدّياً للسياسة الأميركيّة. ليس كل الأميركيّين أعداءً للعرب. نورتن لم يكن من الأعداء.

0 تعليق

التعليقات