منذ سنة تقريباً، ودّعَنا أنطوان المقسيسي. ألقى نظرة أخيرة على أرشيفه الطويل الذي غطّى عمره القصير، فنظّم ما كان بحاجة إلى تنظيم: الصور، الألبومات، الفيديوهات، الكتب، الجرائد، كلّ ما أودعه سنين التعب، ودّعَه، ومشى. لم يأخذ معه قصاصة ورق واحدة. مشى بخفّة وخفر، لكن بجرأة وشجاعة، تماماً كما عاش بيننا.من المرجّح أن يعود شغفه بالأرشفة إلى حرمانه من العلم في سنّ مبكرة، وتحمُّله مسؤوليّات العائلة التي لا يدري بمشقّاتها إلا أهل بيتها. تسلّمَ، يافعاً، مهمّات مضنية تعاقب على الدوام عليها، بهِمّة قلّ نظيرها، واندفاع يُشهَد له. من القطاع الصحّي في مستشفى الشمال في زغرتا، إلى المكتب الإعلامي في «تيّار المردة» حيث عُرف، من ناحية الصحّة، بخدمته وإنسانيّته، ومن ناحية الإعلام، بدقّته وتنظيمه. وبين هذه وذاك، كان يلتهم الكتب والجرائد، نَهِماً لكلّ الإصدارات، الجديد منها والمستجدّ. وبالرغم من عدم تواجده في الكثير من المناسبات العامّة، على اختلاف أنواعها، غير أنّه كان متابعاً حثيثاً لها، وبصمت.
وحين هبّ هواء العصر على الورق فقلبه رقميّاً، اتّجه هو معه، ولم يستسلم. لحق بالجرائد من مرحلتها الورقيّة إلى مرحلتها الإلكترونيّة، مشتركاً ومشارِكاً فيها. ما ساعده أيضاً، باطّلاعه المستمرّ وعلى الخطّ نفسه، على أن يكون من المحرّرين في موقع «المردة» الإلكترونيّ، ومن كتّاب المقالات الشخصيّة التي تعبّر عن مواقف جريئة صارخة، وتنمّ عن ذاكرة وثقافة. فكان، بحكم موقعه هذا، مجبراً على متابعة الجرائد بنسخاتها الإلكترونيّة الجديدة، وانتظار مواقيت إصداراتها، لتسقُّط وتتبُّع آخر أخبارها، حتّى بعد منتصف الليل.
هكذا استطاع أنطوان، خلال مسيرته الفرديّة، تكوين أرشيف متنوّع، في الرياضة والسياسة والثقافة، وصولاً، أخيراً، إلى أرشفة كاملة لجريدة «الأخبار» منذ صدور عددها الأوّل بعد حرب تمّوز، تحديداً في 14 آب (أغسطس) 2006، حتّى يوم وفاته بعد صراع مع المرض في 5 تمّوز (يوليو) 2018.
ربّما يكون الكون مكتبة ضخمة، كما تخيّله الكاتب الأرجنتينيّ بورخيس، وربّما يكون أنطوان اليوم في المقلب الآخر، يسهم في أرشفة تلك المكتبة التي لا تنتهي. لذا، نسأله: «ما «الأخبار» هناك؟»