لا تخذل صيدا من يعتبرها أنّها عاصمة الجنوب، حتى في زمن «الثورة». الآلاف من بلدات أقضية صيدا وشرقها وجزين والزهراني تحدّوا خلال الأيام الماضية قطع الطريق بينهم وبينها. عاندوا الإطارات المشتعلة والردميات وبحثوا عن طرق فرعية بين الأزقة والبساتين، ليصلوا إلى تقاطع «إيليا». هناك، منذ الليلة الأولى للانتفاضة الشعبية، نزل شبّان صيداويون حزبيون وغير حزبيين إلى التقاطع وقطعوا حركة السير بأجسادهم. في صباح اليوم التالي، آزرهم المئات من المناطق المجاورة ليصنعوا مشهداً سلمياً اتخذ منحى كرنفالياً ومدنياً ووطنياً ويسارياً في آنٍ واحد، حول ساحة الثورة إلى مساحة عامة تفعل فعل تواصل اجتماعي واقتصادي وسياسي.

تظهر عاصمة الجنوب في كل زاوية من زوايا اعتصام تقاطع «إيليا» المفتوح. فوق أحد الجدران، ارتفعت لافتات خطّت عليها مطالب معيشية بصيغة شيوعية، وإلى جانب صورة النائب الراحل مصطفى سعد، تدلّت يافطة ضخمة كتب عليها «الوطن المعلم والقائد». تحت شجر الأرصفة، حجز معتصمون إسلاميون مساحة ونصبوا خيمتهم التي لا يفارقونها. يرفعون فيها الأذان ويقيمون الصلاة. من حولهم، تصدح مكبرات الصوت بالأغاني الصاخبة والأناشيد الوطنية.
لا يعترضون ولا يتأثرون. كل مجموعة من المعتصمين تحلقت في زاوية، لكن رسمت بينها وبين زميلاتها خطوطاً سرعان ما تنقطع عند بدء التجمع اليومي الحاشد مع ساعات المساء حتى ما بعد منتصف الليل، ويتحوّل التجمع من بعدها إلى سهرة احتفالية.
قلة عدد المعتصمين في النهار، تترك المساحة للفقراء والمهمشين الذين لأجلهم ثارت ثائرة اللبنانيين بمختلف طبقاتهم وانتماءاتهم. صباحاً، يغلب عدد الباعة المتجولين على عدد المشاركين. بدلو القهوة، يجول شبان وعجزة ليبيعوا فنجان القهوة بـ «قد ما بدك». منهم من لم يكن يبيع القهوة قبل أسبوع. كان عاطلاً من العمل. اختار هذه المهنة السريعة والبسيطة التي لا تحتاج لرأسمال، ليسترزق من مشاركين فقراء مثله، ربما لا يستطيعون دفع ثمن أكثر من فنجان. لكن مشاركين آخرين يستطيعون. «إكسبرس الزعيم» و«صاج الثورة» للمناقيش وشاورما وسندويشات وفول وذرة مسلوقة وعرانيس مشوية وفوشار وعصائر. تشكيلة منوّعة لمن يمضي ساعاته هنا. شكّل التقاطع بديلاً عن الكورنيش البحري والحدائق القليلة في المدينة التي تفتقد رويداً رويداً إلى المساحات العامة المشتركة التي لا ثمن للدخول إليها. بعد مصادرة «منتزه الكنايات» على نهر الأوّلي وتجديد كرمس العيد في صيدا القديمة وتحديد مواعيد للدخول إلى الحديقتين الوحيدتين، شعر فقراء المدينة بالتشرد. أولئك الذين لا يستطيعون الدخول إلى «المول» والتجمعات الترفيهية الحديثة. أقفل تقاطع «إيليا» المجمّع التجاري وباقي المساحات مدفوعة الثمن، وأحيا مفهوم الحيّز العام. كما عوّض لبعض الباعة وأصحاب البسطات خسارتهم لقوت يومهم جراء الأحداث الراهنة. «كنت أجني يومياً خمسة آلاف ليرة، هنا أجني 50 ألفاً». وكان لافتاً من قدّم الضيافة للمعتصمين. شبان وشابات يحضرون سندويشات الفلافل ويقدمونها للمشاركين. بعض أصحاب المحال قدموا منتجاتهم كضيافة: حلويات وبزورات ومياه وعصائر وطعام.


يظهر تنوّع المتظاهرين في «إيليا» كتنوّع الصيداويين وجيرانهم. العقائديون والحزبيون أشاروا إلى وجودهم باللافتات وأناشيد مارسيل خليفة وزياد الرحباني وتوجيه الحراك نحو إطار مطلبي محدد ذي وعي سياسي وتنظيم التحرّك ضمن لجان للنظافة والمنبر والشعارات والأغاني وقطع الطرقات. أصر أمين عام «التنظيم الشعبي الناصري» النائب أسامة سعد على عدم التدخل تنظيمياً أو سياسياً في عمل اللجنة المنظمة للحراك. عبّر عن سعادته بأن «الشعب سبق الأحزاب إلى الثورة». لكن الصيداويين بدورهم سعداء بأن ممثّلهم، نجل الشهيد معروف سعد، النائب الوحيد الذي شارك في التظاهرات ولاقى ترحيباً لافتاً في مقابل الإصرار على شمول الوزراء والنواب كافة بـ «كلن يعني كلن». الناشطون المدنيون وأبناء العائلات الصيداوية (منها قريب من تيار المستقبل) عبّر عن ثورته بنمط فني وثقافي. منصات عدّة نُظّمت أنشطة تشابه أنشطة المهرجانات وكرنفالات العيد: رسم على وجوه الأطفال وتطيير البالونات وتوعية على النظافة وجمع النفايات وفرزها....