انطفأ أمس، في حلب، المنشد حسن حفّار (1943ـــــ 2020). علامة مضيئة أخرى، في السلّم الموسيقي الحلبي تخبو، فيما يخسر السمّيعة صوتاً نادراً في الإنشاد والمديح والموشحات، الصوت الذي رافق الحلبيين أربعين عاماً من مئذنة الجامع الأموي، كلحظة إعجازية، ذلك أن الشيخ حسن اختزن منذ طفولته حسّاً موسيقياً لا يضاهى، في مدينة تتنفّس المقامات من جهاتها الأربع. قبل سنوات، رحل رفيق رحلته الأولى صبري مدلل، وها هو «حفّار القلوب» يترجّل، في مدينة تعيش خرابها منذ سنوات. كأن حرّاس حلب الزمن البهي، انسحبوا من المشهد كي لا تختلط أصواتهم بمقامات القذائف. في أرشيف حسن حفّار، تختلط الموشحات بالقدود الحلبية بأناشيد الذكر مثل جسر للمسرّة. فالمؤذن هنا يتجاوز مهمته الروحية إلى التطريب الدنيوي، في أقصى حالات الشطح. يذكر أحد مريديه، بأنهما كانا عائدين فجراً من إحدى الحفلات التي غنّى فيها الشيخ، فرغب أن يعود ماشياً إلى بيته، وما إن ابتعدا قليلاً عن المكان حتى همس «لقد فتح صوتي، وإذا لم أغنّ فلسوف أختنق». هكذا توجها نحو القلعة، فانطلق يغنّي منتشياً بأعلى صوته، وظللنا ندور على الطريق الذي يطوّق القلعة، ونحن نعنّي حتى موعد أذان الصبح، فدخلنا المسجد وقد هدأت النفس منّا.من حلقات الذكر والتجويد القرآني إلى تعلّم المقامات على يد عبد القادر حجّار، وبكري الكردي، وعمر البطش، وصبحي حريري رحلة طويلة فوق سجادة النغم عبرَها حسن حجّار عتبةً وراء أخرى، وإذا به يضاهي شموخ القلعة بصوته وقدرته على تلوين صوته، بين مقامٍ وآخر، متنقّلاً بمخزونٍ غنائي يصل إلى 200 موشح، و100 قصيدة. الانعطافة الأساسية في تجربته كانت بعد تأسيس فرقته الخاصة، والخروج من أسوار حلب إلى أبرز خشبات المسارح في العالم من أوبرا دمشق، إلى باريس، وبيروت وقرطاج والرباط، بوصفه معجزة حلبية أخرى لا تنقصها المهارة والإتقان والتناغم بين المرددين وشيخ الفرقة. وإذا بالمسافة تتهاوى بين جبّة الشيخ وحنجرته، روحانيته الأولى، وطبقات التطريب إلى حدود نشوة الدوران الصوفي، والسلطنة في طبقاتها العليا، الصدى المتبادل بين حجارة قلعة حلب، وأوركسترا العالم. سنجد مخزن الإيقاع والنغم والصوت، في ألبومه الذي أصدره معهد العالم العربي في باريس «وصلات حلب» (1999)، وفيه سنقع على «طقوس الحجّار» وخصائص تجربته المتفرّدة في المدرسة النغمية الحلبية في خيمياء سحرية من ألحان عمر البطش، وداوود حسني، وسيد درويش، ونديم درويش، وأبي خليل القباني. يجمع الشيخ هنا أبرز الموشحات المجهولة مقسّمة وفقاً للمقامات المعروفة من جهة، والنادرة من جهةٍ ثانية، بتنويعات تنطوي على مقدرة استثنائية في المزج والفرادة، سواء في الإيقاع أو التلوين الصوتي، فههنا يأخذ موشح «ابعتلي جواب وطمّني» مثلاً، بعداً طربياً آخر، الموشح الذي سيردده آخرون من منطقة نغمية أخرى. على الأرجح، فإن أهمية مدرسة حلب في الإنشاد تكمن في خروجها من بعدها الديني الصرف إلى ما هو دنيوي في آنٍ واحد، ومن البيوت المغلقة على حفنة من السميعة إلى فضاء عالمي، من دون أن تفقد أصالتها يوماً، فهي ما انفكت تصدّر أصواتها جيلاً بعد آخر، بعيداً عن التلوّث السمعي الذي أصاب الأغنية العربية. انطفأ الشيخ حسن حفار قبلاً، حين اضطر إلى النزوح من بيته، بعيداً عن القلعة. كان التكفيريون قد احتلوا الحيّ، فأراد الشيخ أن يلقي نظرة نحو بيته. منعه الحرّاس، لكنه أصرّ على طلبه، فسمح له «الأمير»، لكنه وجد بيته مجرد ركام. طلب منه الأمير أن ينشد له بعضاً من أغانيه، لكنه أدار ظهره ومضى. لقد مات حسن حفار في ذلك التوقيت تماماً، مدركاً موت السميعة.