رحل المعلّم العراقي رفعة الجادرجي (1926 ــ 2020) جرّاء إصابته بفيروس كورونا، في لندن حيث كان يقيم أخيراً. هكذا انقضت واحدة من أهم تجارب العمارة العربية في القرن الماضي، لشيخ العمارة العراقيّة الحديثة، كما يُتّفق على تلقيبه. فتحت أفكاره ونظريّاته في فترة مبكرة، آفاقاً لعمارة إقليمية حديثة، لا تقتصر على حدود العراق، بقدر ما تتلاقى مع معظم الدول العربية، في بحثها عن لغة عمرانية تتفاعل مع المدارس العالمية التجديدية، من دون أن تخسر خصوصيتها المحليّة، أو تتنازل عن تلبية حاجات الفرد والمجتمع. لكن بغداد ظلّت هي الأصل. هناك تبلورت أفكاره، بتجواله لساعات طويلة لتأمّل الزخارف الإسلامية والمتاحف والحرفيين في الأسواق القديمة.
بغداد ظلّت هي الأصل. هناك تبلورت أفكاره، بتجواله لساعات في تأمّل الزخارف الإسلامية والمتاحف والحرفيين في الأسواق (بلال جاويش)

كان يزورهم باستمرار ليتعلّم منهم بعض المهارات المعمارية، أهمها كيفية تحقيق تصوّراتهم وتنفيذها على الواقع. ومن العاصمة العراقية أيضاً بعد فترة الاستعمار، ظهرت أسئلة ملحّة حول الهوية والأصالة والحداثة العمرانيّة العالمية. أسئلة لاحت له كمجموعة تناقضات، وأفضت إلى طرح مفهومه الفلسفي «جدليّة العمارة» منذ أن صاغه في أطروحة نشرها لاحقاً بالعربيّة بعنوان «شارع طه وهامرسمث – البحث عن جدليّة العمارة» (صدرت في بيروت منتصف الثمانينيات). في «جدليّة العمارة»، تجاوز الجادرجي ثنائية الشكل والمضمون التي شملت معظم الفنون منذ الفلسفة الإغريقية. فالعمارة وفق تعبيره، تقوم على مجموعة تناقضات بين «المطلب الاجتماعي، والحاجة الفردية وبين المرحلة التقنية لحقبة زمنية معيّنة». ومن أجل تحقيق غايتها في تماسك المجتمع، على العمارة أن تجمع ثلاثة مكوّنات: نفعيّة تتمثّل في تأمين وظيفة الحفاظ على الجسم، ورمزية تلبي حاجات هوية الفرد والجماعة، وجماليّة تحقّق الإمتاع. هكذا استمرّ الجادرجي في تطوير هذا المفهوم، بينما كانت تقترب عمارته، شيئاً فشيئاً من تحقيق هذه الأفكار على أرض الواقع، باتخاذها مسافة متساوية بين «الإقليمية الضيّقة» و«العالمية الساذجة». سذاجة تبلغها العالمية تحديداً في العولمة العمرانية التي اتخذ منها موقفاً نقدياً واضحاً، طالما أنها تفقد المعماري المحلي خصوصيته وتمنحه، مثلما تمنحه السلع، عمارة جاهزة وشكلية لا تقرب من حاجات المجتمع.
ظلّ الجادرجي يوسّع من آفاق هذه المفهوم ويطوّره بمراجع فلسفية وجمالية عالمية ومحليّة. مع هذا، لم تخفت تساؤلاته وشكوكه وأبحاثه التي كانت تتكامل مع أبنيته وتصقلها، قبل أن يدوّنها في كتب عدّة أبرزها «الأخيضر والقصر البلّوري» (1991). وثّق الكتاب لتجربة الجادرجي المعمارية في بغداد، والتي كانت تأتي دائماً من صراع واقعي مع معضلات مستجدّة تواجه عماراته، سواء أكان في عمله على مشاريعه الخاصّة، أم في خلال فترة عمله في الوظائف الرسميّة التي شغلها في وزارة الأشغال العامّة. أكثر من ذلك، يؤرّخ الكتاب لعقود من الحياة الثقافية في العراق، ولهواجس أجيال مختلفة من الفنانين والمعماريين. هو الذي يمثّل أحد وجوه الجيل الثاني من المعماريين العراقيين ممن درسوا في بريطانيا وأميركا، بعد دفعة أولى ضمّت جعفر علاوي ومحمد مكيّة وآخرين.

مبنى شركة التأمين في الموصل

بعد الحرب العالمية الأولى، شهدت عمارات بغداد تحوّلاً كبيراً، يشير إليه الجادرجي في أحد فصول كتابه، مع نشوء متطلبات اجتماعيّة جديدة وخصوصاً بعد توسّع حدود بغداد الجغرافية لدى تأسيس الحكومة العراقيّة. تحوّل ترجمه بعض المعماريين العراقيين، بالاستغناء عن البيوت البغدادية التقليدية (أو التحدارية، كما كان يفضّل تسميتها) مقابل استنساخ العمارات الأوروبية، بطريقة حرفية أحياناً، تتجاهل تماماً خصوصية المدينة. بعد عودته بداية الخمسينيات من لندن، حيث درس العمارة، إلى بغداد، أسّس المكتب الاستشاري العراقي مع بعض زملائه، الذي اتسع لمخططات عماراته بمزجها تقاليد العمارة العراقية وجمالياتها بلغات معمارية وفنية عالمية مثل الباوهاوس وتصاميم لو كوربوزييه، ومينيماليّة الألماني ميس فان دير روه والتيارات الفنية التجريدية.
كان العراق بأكمله يضجّ بالأفكار الحداثية في الشعر والفنون كافة في الأربعينيات والخمسينيات، حيث ظهرت جماعة الرواد التي كان فائق حسن أبرز وجوهها، وجماعة الفن الحديث. انخرط الجادرجي في هذه اللقاءات، بين فنانيها الذين كانوا يتابعون أحدث المدارس والتيارات الفنية الحديثة في العالم، بينما يعيدون في الوقت نفسه قراءة شاملة لتاريخ العراق وإرثه الثقافي والفني البابلي والآشوري والسومري. لقاءات أسفرت عن مشاريع فنية متكاملة جمعت الأدب والنحت والعمارة حينها. هكذا صمّم الجادرجي قاعدة نصب الحريّة في بغداد الخمسينيات، ونفّذ منحوتاته الفنان العراقي الراحل جواد سليم، فيما كتب جبرا إبراهيم جبرا ملخّصاً عن المنحوتات ورموزها. وفي الستينيات، أنجز الجادرجي أهم تصاميمه وعماراته في العراق: مبنى «اتحاد الصناعات الوطنيّة» في بغداد (1966)، و«مصرف الرافدين» (1969) ولاحقاً «مبنى البريد المركزي» (1975)، ومبنى مجلس الوزراء (1975). عمارات تحوّلت إلى نموذج مادي عن العمارة العراقية الحديثة، إضافة إلى البيوت الخاصة التي صمّمها في بداية عمله مستخدماً مواد الطابوق، والخرسانة والخشب، والزخرفة التجريدية في الواجهات والنوافذ، ولغة جمالية تعتمد على انعكاس الضوء والظلال، وعلاقات بين الغرف والحوش استلهم بعضها مما قرأه في «ألف ليلة وليلة». بالتزامن مع ذلك، تفرّغ الجادرجي للتصوير الفوتوغرافي. أداة أخرى استعان بها، لفهم العراق بشريّاً وثقافياً في توثيقه من خلال 80 ألف صورة لمباني العراق وحياتها اليومية منذ الخمسينيات حتى الثمانينيات.

نصب «الحريّة» في بغداد (صمّم الجادرجي قاعدته وأنجز منحوتاته جواد سليم)

مثلما حلّت مآسي السنوات الماضية على البلاد بأكملها، لاقت أبنيته ونصبه الفنية نصيبها من الأضرار والهدم والعنف. حين كان نصب «الجندي المجهول» (استوحى تصميمه من المنحوتات السومرية) يتوسّط ساحة الفردوس في بغداد، اقتلعته السلطة العراقية نهائياً لتستبدله بنصب لصدّام حسين الذي عاد وأُسقط عام 2003. اعتُقل بعدها في سجن أبو غريب لعامين (وثّقها مع زوجته الباحثة بلقيس شرارة في كتاب «جدار بين ظلمتين»)، بسبب اتهامات بإلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني حين رفض التعامل مع شركة أجنبيّة لأسباب خاصّة. غادر بغداد نهائياً بعد خروجه من السجن بداية الثمانينيات متّجهاً إلى أميركا ليدرّس الفلسفة في «هارفرد» في أميركا. تلك كانت المحطّة الأولى في المنفى قبل أن يتنقّل بين بريطانيا ولبنان حيث عمّر بيته في بلدة حالات.
خلال الاحتلال الأميركي الذي نال من متاحف ومكتبات وآثار البلاد، تعرّضت بعض أبنيته البغدادية للحرق والدمار. بعد سنوات قليلة، سيمنح مقاتلو تنظيم داعش، مبنى التأمين الذي صمّمه في الموصل، وظيفة جديدة، إذ لم تقف الأضرار على القذائف، بل استخدمه العناصر لتنفيذ أحكام الإعدام برمي المواطنين من طوابقه العليا. إلى أن هدم المبنى أخيراً، بعد جدال طويل بين الحكومة والداعين إلى المحافظة عليه كشاهد تاريخي وثقافي. كان للجادرجي رأي بالتخلّي السهل للشعوب عن عماراتها وأبنيتها، وخصوصاً بعد كل ما رآه ولم يره خلال زيارته إلى بغداد سنة 2009. وقد أرجعه باختصار في إحدى مقابلاته الأخيرة إلى إرث البدو الطويل، الذي يجعل البلاد وأبناءَها ميّالين إلى التخلي عن الماضي والمستقبل على السواء.