1.

يُقبِل العالم العربي، اليوم، على مرحلة جديدة من التطبيع مع إسرائيل الذي يتجاوز الدولة المفردة إلى دولتَين أو دول، يقلّ أو يكثر عددها. هناك إشارات متواترة، تفيد أنّ هذه المرحلة تدلّ على ما يُمكن اعتباره انتقالاً صريحاً إلى زمن مختلف. تلك الإشارات تسمح لنا بأن نصوّر ما يحدث، وما سيأتي، في مشهد طائفة من المتسوّلين الذين يقفون على باب رحمة إسرائيل ـ أميركا. منهم من يحمل هدايا من خزائن الذهب واللؤلؤ والماس، ومنهم من يمدّ يدين متضرّعتَين إلى أميركا. مشهد مُفزع. كأنّما هو من مشاهد جهنّم. مشهد مُفزع، تتستّر خلفياته التي يصعب الكشف عنها، ويمكن ألّا نراها. بينها وبيننا طبقات من الحجب، كلّما نزعنا حجاباً، عوّضه حجاب. لسنا فقط لا نصدق أنّ دولاً عربية تتخلّى عن الشعب الفلسطيني، تتجاهل ظلم الإسرائيليين له وتتنكّر لمأساته، بل نحن نكاد نفقد بصرنا، فلا نرى شناعة هذا الذي يحدث، تحدّياً لشعوب بكاملها تناصر الفلسطينيين، ولا يبقى لنا مما نرى سوى الظلمات. هي ظلمات ألّا نعرف، أو ألّا نفهم. عوامل متكاملة لا تساعدنا على المعرفة أو الفهم. لنكنْ متواضعين. فوسائل الإعلام، ووسائل الاتصال الاجتماعي، تطوّق حواسنا ومداركنا، على امتداد الليل والنهار. تطوّق وتضغط، ثم الضغط يقوى ويقوى، حتى لا نفَس. جبروت العولمة الاقتصادية، مأساة كورونا، انفجار بيروت، هي كلّها تسمح للتطبيع أن يُضاعف من عجزنا عن رؤية ما لا يكشف عنه، حتى لا معرفة ولا فهم.


2.

نعم، التطبيع خيانة للشعب الفلسطيني. لكن ترديد هذه المقولة وحدها لم يعد يكفي. علينا أنْ ننتبه. ينقلنا التطبيع مع إسرائيل، حقاً، إلى مرحلة التعوّد على خيانة الشعب الفلسطيني والتكيّف معها، ثم أيضاً إلى مرحلة الإصرار على خيانة القيم الإنسانية، وفي مقدمتها قيمة الحرية. وهي، بالنسبة لنا، خيانة كفاح شعوب البلاد العربية من أجل الحصول على الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، ثم خيانة خروج هذه الشعوب في الربيع العربي، منتفضة على الديكتاتوريات. أصبحنا، هنا وهناك، في الشرق كما في الغرب، نسمع أن اختيار التطبيع تفرضه حجة العولمة في الاقتصاد وأولوية الاقتصاد، أو نسمع عن أولوية الأمن الذي يعذب دولاً عربية. حجتان ملفّقتان لتبرير التطبيع، تبرير أسبقية الاقتصاد والأمن، أو أسبقيتهما، بتسمية حماسية هي المصلحة الوطنية، على القيم الإنسانية، أو بتسمية السلام، المفرغ من المعنى. سمعنا اليوم، وسنسمع بعده من أيام قادمة. لذلك فإنّ ما أخشاه هو أن تصبح كلمات مناهضة التطبيع، التي تعودنا عليها، وما زلنا نكرّرها بالاستنساخ، عاجزة عن مدّنا ببوصلة الاستمرار في المقاومة، أن تصبح كلمات تبتلعها دوامة الاستسلام. مهجورة.


الاكتفاء بترديد مقولة «التطبيع خيانة للشعب الفلسطيني» وحدها، ربما بدت للبعض كما لو أنها لا تزال تحتفظ بحيويتها وتتمتّع بحمايتها الذاتية، لأنها تنطق بواقع نيّئِ، واقع الاستعمار الإسرائيلي بعد الاستعمار البريطاني. واقع الاستعمار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وواقع تاريخ القضية الفلسطينية، منذ العشرينيات من القرن الماضي، على الأقل، مع الانتداب البريطاني ووعد بلفور. لهذا، ربما كان الاكتفاء بالمقولة يدعو لليقين. فنحن رددناها منذ أن قامت مصر منفردة بالتطبيع مع إسرائيل، ثم لحقتها الأردن، في وقت كان الاختيار العربي يولي الاعتبار للتضامن الجماعي مع الشعب الفلسطيني. ما الذي تغيّر؟ التطبيع هو نفسه، سابقاً وحالياً. والخيانة سابقاً لا تختلف في شيء عن الخيانة حالياً. إذن، التطبيع خيانة للشعب الفلسطيني مقولة كافية لتأكيد اليقين. على أنني أقول: هو يقين لا يبطل الشك. بهذا أواجه نفسي، أدفعها إلى الاصطدام بجدار ألّا تعرف وألّا تفهم. صرخة أولى وثانية. وفي الصدر ألمُ نكران مشهد الفزع. ألمُ الطمأنينة. ومن يستطيع أن يُبعد عني هذا المشهد، الذي أصبح يلازمني، وأنا أنظر إلى صفّ المتسوّلين، الواقفين على باب رحمة إسرائيل ـ أميركا؟ أحاول أن أكذّب نفسي فلا أجرؤ، وأسعى إلى الاحتماء بالأناشيد الوطنية، فلا أعثر إلا على الخلاء. أتساءل: هل التعامل مع أميركا يقتضي تنازل هذه الدول عن سيادتها؟ وهل ثمن مساعدة أميركا لهذه الدول هو الرضوخ لابتزازها السياسي، متمثلاً في التطبيع مع إسرائيل؟

3.

الشك، في الاكتفاء بمقولة التطبيع خيانة للشعب الفلسطيني، يعني أن هناك هذا الانتقال إلى زمن مختلف، علامته العولمة وحُمّى الأمن. وهو ما شجّع متسابقين إلى التطبيع على إعطاء الحجة بأسبقية المصلحة الوطنية التي لن تنتظر حل القضية الفلسطينية، أو حرّض آخرين على الصياح بأن المصلحة الوطنية هي الاختيار الصحيح، أو وجّه سواهم إلى كسر الأبواب المغلقة لأن الفلسطينيين يرفضون استئناف المفاوضات مع الإسرائيليين ولا يقبلون بشروط «صفقة القرن» والكلام المباشر مع الولايات المتحدة الأميركية برئاسة دونالد ترامب. لقد تعبوا من هؤلاء الفلسطينيين! العولمة والأمن، هما الآن الأسبقية. حجّتان أصبحتا سيّدتيْن لدى الذين يديرون وجوههم لأسبقية التضامن مع الشعب الفلسطيني، المناضل من أجل حريته ودولته الوطنية.
«المصلحة الوطنية» علامة جديدة في الخطاب السياسي اليميني، على المستوى الدولي. يمثله دونالد ترامب نفسه، الذي رفع شعار «أميركا أولاً»، باسم الدفاع عن المصالح الأميركية. هو شعار العولمة المتوحشة، التي تنقل العالم من فضاء الحرية إلى معتقلات الاستغلال والاستعباد. وبهذا الشعار نفسه عمل دونالد ترامب على تنفيذ المرحلة الأخيرة من المشروع الإسرائيلي، الذي تحدّده إسرائيل ببناء دولتها (القديمة) الموسّعة، القوية، وحفظ أمنها. وهو المشروع الذي يتحقق من خلال الاستيطان في الضفة الغربية، وإفراغ الشعب الفلسطيني من أرضه، وتكريس حرمانه من حقوقه الوطنية، وممارسة السياسة العنصرية في جميع مرافق حياته.
الذين يقبلون، من الدول العربية، بالتطبيع مع إسرائيل ويدقون طبوله، بحجة المصلحة الوطنية وأولويتها، هم، في الحقيقة، يتنازلون عن سيادتهم لأميركا. ولتأكيد تنازلهم، أصبحوا يفضّلون المصلحة الإسرائيلية، المعبّر عنها بنزع جميع الحقوق عن الفلسطينيين ومنعهم من الحصول على دولتهم الوطنية. من هنا تكون الخيانة مضاعفة: خيانة الشعب الفلسطيني وخيانة الحرية.

4.

ثمة ما يحتاج إلى توضيح. فما يجهله العرب، الذين يرفعون خطاب التطبيع، هو أن فكرة إسرائيل، التي تعود إلى أواسط القرن التاسع عشر، تحققت وأصبحت ملموسة على أرض الواقع، بدعم من أغنياء اليهود وبتضامن من طرف أكبر الدول الغربية الاستعمارية، على رأسها إنكلترا، التي منحت اليهود وعد بلفور بغير حق، ثم عملت على تنفيذه بدعم أميركيّ أولاً، وأوروبي ثانياً. وبسبب هذا التضامن الأميركي والأوروبي، استطاعت إسرائيل أن تحصل على الاعتراف بها كدولة ذات سيادة، وأن تتمكن من بناء نفسها، وفق ما ترى أنه مصلحتها الوطنية، التي تتعارض كلية مع المصلحة الوطنية للشعب الفلسطيني.
أما الشعب الفلسطيني، الذي كان تابعاً للدولة العثمانية، ثم فرضت عليه إنكلترا انتدابها، وساعدت اليهود المهاجرين على استيطان أرضه، وأدت سياستها الاستعمارية، عند قرار التقسيم، إلى إعطاء أكثر من نصف أرضه وأخصبها للإسرائيليين، فقد كان ضحية وضعيته التاريخية. ولا نستطيع أن نقارن بين حجم ونوع دعم أغنياء اليهود للصهيونية وتضامن أوروبا وأميركا والإعلام الغربي معها من جهة، وبين حجم ونوعية دعم العرب وتضامنهم مع الفلسطينيين من جهة ثانية. بل إن الفلسطينيين فقدوا، منذ تسعينيات القرن الماضي، تضامن روسيا معهم، وتضامن أنظمة كانت تقدمية. ثم جاءت العولمة ومعها فتنة الاقتصاد والمال، فلم يعد يلتفت إليهم أيُّ طرف دولي إلّا بكلام كلُّه نفاق. هكذا احتفت أميركا دونالد ترامب بالمخطّط الإسرائيلي، بغية التخلص النهائي من الفلسطينيين، عبر نقل السفارة الأميركية إلى القدس وتأييد سياسة الاستيطان والاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل. وها هي تجرّ دولاً عربية نحو التطبيع، تكريساً لشرعية الدولة العبرية، وزيادة في تأمينها وفرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط.

5.

هنا نفهم كيف أن تطبيع دول عربية مع إسرائيل خيانة مضاعفة. خيانة هذه الدول للفلسطينيين الذين تتركهم وحيدين، فيما هو التضامن الصامد معهم سيؤدي إلى حصولهم على حقوقهم الوطنية، كما كان حال التضامن الدولي مع الأغلبية السوداء في إفريقيا الجنوبية الذي نجح في إلغاء النظام العنصري. والوجه الثاني للخيانة هو أن قبول هذه الدول بسياسة إسرائيل التوسعية والاستيطانية، تنكّرٌ لقيمة الحرية، التي هي أسمى القيم الإنسانية. فلا يمكن لهذه الدول بعد ذلك أن تتكلم باسم هذه المبادئ أو أن تتشبث بها وتدافع عنها. وهي، تبعاً لذلك، تتنازل، تلقائياً، عن سيادتها فيما هي تتنازل عن استقلالها وحريتها وكرامتها لإسرائيل، كما ستعمل على تمكينها من إثبات شرعيتها ومضاعفة وسائل حماية نفسها من أيّ عدوّ محلي يهدد أمنها أو سياستها الاستعمارية أو هيمنتها، وستبارك اغتناءها على حساب شعوب المنطقة. ولن تعبأ هذه الدول، من بعد، بما ستفرضه إسرائيل عليها من ترسيم حقها الإلهي في فلسطين، ومنع وتجريم أي خطاب يتناقض مع الخطاب الإسرائيلي، والتشهير بالاعتراض على الميز العنصري في حق الفلسطينيين، والقبول بالإهانة، والترحيب بالثقافة الإسرائيلية العنصرية. ولنا أن نستعدّ لعملية غسل الأدمغة من تراث الحرية في الثقافة العربية والكونية، وتشويه معاني معجم القيم الإنسانية.
خيانة مضاعفة تعصف بالتضامن مع الشعب الفلسطيني مثلما ستعصف بما كان من تاريخ الحركات الوطنية ونضال شعوب العالم العربي ضد المحتلين والمستعمرين وبما هو موجود من سيادة الدكتاتوريين. فمن سيتذكر، بعد هذا، كفاح هذه الشعوب من أجل الاستقلال والحرية والديمقراطية؟

6.

من «طريق الحرية» إلى «حرية الطريق». هكذا يتباهى المطبّعون. وها هم يشرعون في التلاعب بالكلمات، حتى تتكاثر الحجُب. يرسلون شعارهم الجديد، «حرية الطريق»، حرية الاقتصاد والمال، لكي يبطل استعمال تعبير «طريق الحرية» الذي ناضلت الشعوب في سبيل بقائه مفتوحاً ولانهائياً. والقصد من التلاعب هو الإيهام بما تعنيه عبارتهم من حكمة، وبما يرونه من صواب نعجز نحن عن رؤيته. إلّا أنّ ما يمكن أن يدهش الأبرياء من ضحايا دعاية التطبيع، هو أن الإسرائيليين لا يتخلّوْن عما هم عليه، من كامل غطرستهم. فهم يسعوْن إلى محو اسم فلسطين، من الجغرافية كما من الماضي والمستقبل.
نقد الخيانة المضاعفة هو المدخل المطلوب، الآن، لمواجهة التطبيع. بهذا أفترض أن المرحلة الراهنة تستدعي توسيع الرؤية إلى فعل الزمن الذي أصبحنا فيه. ومن ضرورة اليقظة أن نبدع في قراءة هذا الذي يحدث من استسلام. فأخطر ما يمكن أن نسقط فيه هو أن نترك الحجُب تتراكم، يوماً بعد يوم. خونة المبادئ يتكاثرون، ووسائل إعلامهم مثلما وسائل اتصالهم الاجتماعي تحرّضهم على توليد الأخبار الكاذبة وتشويه معاني معجم القيم الإنسانية.
لنُعلنْ، بطاقة العاصفة، أن القيم الإنسانية موجودة ومعترَف بها، رغم جميع ما تتعرض له من تضييق على يد اليمين الذي استولى على الحكم في أكثر من مكان. لم تمت القيم الإنسانية بعد، ولن يتركها المناصرون لها منفيةً في الأراضي القاحلة. هناك المفوضية السامية لحقوق الإنسان، والمحكمة الجنائية الدولية، ولجنة القضاء على الميز العنصري، بما هي مؤسسات دولية تعمل على ترسيخ وحماية القيم الإنسانية. وهناك عشرات الآلاف من مؤسسات محلية وجمعيات للدفاع عن حقوق الإنسان عبر العالم.
صوت القيم الإنسانية سيبقى عالياً، لأن المقاومين للخيانة، وما يرافقها من تزييف وخذلان، هنا وهناك حاضرون، يستلهمونها في تضامنهم مع الشعب الفلسطيني. عندما تم الإعلان عن اتفاقية السلام مع إسرائيل نزلوا إلى الشوارع رغم مخاطر الوباء. شاركوا في رفضهم للاتفاقية بكتابات احتجاجية أو ساخرة. أنجزوا أعمالاً فنية. حضروا في إذاعات وقنوات تلفزيونية ومنصّات التواصل الاجتماعي. صوت متعدد، قويّ. تحرّك بسرعة غامرة، بتقنية عالية، وفي العديد من نماذجه بأساليب جذابة. ما يحتاج إليه هذا الصوت، صوت المناهضة، هو الفكرة الكاشفة لمعنى التطبيع الآن، في زمننا، الذي ليس هو فقط زمن ما كانت عليه الوضعية الدولية أو العربية سابقاً، من حيث قوة الفعل المقاوم وعناده.

7.

علينا أن نتذكر اليوم السلطان التركي عبد الحميد الثاني، ونقرأ ما كتبه عنه ألدّ خصومه، ثيودور هرتزل الذي سجّل في مذكراته أن السلطان لم يقبل بالإغراءات المالية التي كان يقدّمها له لتسديد جميع ديون الدولة العثمانية وإنقاذها من الانهيار والسقوط، مقابل الموافقة على أن تكون فلسطين مأوى لليهود. رفَض عبد الحميد الثاني رفضاً قاطعاً أن تكون فلسطين محلّ مساومة، ورفض بيع فلسطين بأيّ ثمن. موقف كبير، نبيل، نسيْناه، أوْ تناسيْناه. وعلينا اليوم أن نعيد لصاحبه الاعتبار ونقدّمه كنموذج للحاكم المتشبّث بقيمة الأمانة التي كان يحافظ بها على فلسطين، على أبنائها وعلى تاريخها وأماكنها المقدسة لدى الديانات الثلاث.
فكيف نفهم أن يتخلى حكام عربٌ عن الفلسطينيين ويتخلّفوا عن التضامن معهم؟ يُقال إن دونالد ترامب نجح في ما فشل فيه رؤساء آخرون، أميركيون وأروبيون. لكنّ الرؤساء الآخرين كانوا متشبثين بالقرارات الأممية، فيما دونالد ترامب عمل على تنفيذ ما أملاه عليه الإسرائيليون. وبدلاً من إقناع (أو إرغام) إسرائيل على تطبيق القرارات الأممية، فضّل إعادة نفس سيناريو هرتزل مع عبد الحميد الثاني، بإغراء الفلسطينيين بالمال (مع الفارق بأن من سيدفع هو الصندوق العربي) وازدهار الاقتصاد الفلسطيني، مقابل الموافقة على ضمّ إسرائيل المستوطنات في الضفة الغربية إلى جانب غور الأردن، والتنازل عن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية التي ستصبح خارج الضفة الغربية.
لكنّ الإسرائيليين لا يتنازلون عن قرار القضاء على الشعب الفلسطيني، الذي يؤرقهم وجوده الآن وقبل الآن وبعد الآن. وهم يملكون خطة هيأوها منذ الثلاثينيات من القرن الماضي وسعوْا إلى فرضها خطوة، خطوة. في يدهم قوة المال وقوة السلاح وقوة الإعلام وقوة التضامن الأميركي ـ الأوروبي. أما الذين يُشيعون بأن الفلسطينيين يرفضون التفاوض مع إسرائيل ولا يقبلون بتغيّر الواقع، فهم يكذبون على أنفسهم وعلى من يظنون أنهم يثقون بأكاذيبهم. إسرائيل لا تتفاوض بشروط غيرها، وأوّلها شروط الأمم المتحدة التي كانت السبب في إنشائها. هي لا تريد السلام مع الفلسطينيين وكانت دائماً تعرقله. وقد عثرت في دونالد ترامب على الرجل الذي ينفّذ لها الفصل النهائي من مشروعها، بفرضه على دول عربية ويخرجه في شكل مسرحية سلام هزلية، هي مجرد تهريج. مع ذلك، لم يصل إلى إبعاد الفلسطينيين عن حلمهم بإنشاء دولتهم المستقلة على حدود 67، عاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين.

8.

تغري حركة التطبيع، التي تتوالى مشاهدها، دون أن تكشف عن خباياها، بالإفاضة في قراءة معنى هذه المرحلة التي تريد أن تجعل من التطبيع أمراً عادياً ومقبولاً من طرف شعوب البلدان العربية. لكن الأهم من ذلك، هو محاولة قراءة الخيانة المضاعفة، حتى نتبيّن شيئاً من التنازل عن السيادة الذي تقاد إليه الدول وهي تزيّن وتبرّر التطبيع. سنسمع ونقرأ ما يتنبأ به الدعاة، مبشّرين بزوال الزمن الذي كانت فيه السيادة مركز الكلام عن الدولة الوطنية.
لا أستبعد شيئاً مما يتنبأ به هؤلاء الدعاة، المتنافسون في خيانة الفلسطينيين والقيم الإنسانية، على السواء. ليس لي وثوق في شيء مما يتجاوز قدراتي التي لا تزيد عن قدرات أيّ شخص ما زال يعتقد أن المقاومة ضرورية وممكنة، مقاومة خيانة الفلسطينيين وخيانة القيم الإنسانية. نحن اليوم إما أن نكون مع التطبيع أو مع الحرية. كلمة المقاومين تتجاوب أصداؤها. وأنا أراهم يمشون. على طريق الحرية، يمشون. يحدقون في وجوه السابقين واللاحقين. يشمّون هواء جهات الأرض. يقطعون شعاب الزمن الوعرة. بأقدام ثابتة، يمشون. يسبقون حَرّاً. يسبقون صقيعاً. وبألوان الحلم، على طريق الحريّة، يمشون.

* شاعر وناقد مغربي أعلن انسحابه من عضوية الهيئة العلمية لـ«جائزة الشيخ زايد للكتاب» إثر اتفاق التطبيع بين الإمارات الكيان الصهيوني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا