«من لا يقرأ يعِش حياة واحدة حتى لو اجتاز السبعين عاماً. أما من يقرأ، فيعيش خمسة آلاف عام. القراءة أبدية أزلية» (أمبرتو إيكو)
يشبه أمبرتو إيكو (1932- 2016) منقّباً للآثار، وربما محقّقاً في رواية بوليسية، لجهة التأني في فحص المادة الخام التي بين يديه، وتقليبها موشورياً لمعرفة أين تكمن خصوصيتها. ذلك أنّ هذا الفيلسوف والسيميائي الايطالي، الذي توفي أول من أمس، في ميلانو، لم يكتفِ بالاشتغال في حقل التأويل، وطبقات السرد، ومتاهات الأرشيف، بل لجأ متاخراً إلى كتابة الرواية أيضا. ولاحقاً، انخرط في تفسير آليات الكتابة نفسها، وإذا بنا حيال عمارة موسوعية لمشروع فكري يصعب اختزاله في مشتلٍ نقدي واحد. كانت روايته الأولى «اسم الوردة» (1980) مفاجأة حقيقية نقلت اسمه من الاوساط الأكاديمية المغلقة إلى الفضاء الثقافي العام، ووضعته في الواجهة كواحد من أكثر الروائيين شعبيةً. صعوبة مناخات الرواية التي تدور أحداثها في أحد أديرة القرون الوسطى، لم تقف حائلاً دون انتشارها المدوّي بين ملايين القرّاء في العالم (طُبع منها نحو 15 مليون نسخة، في 30 لغة عالمية)، نظراً إلى حبكتها البوليسية المحكمة والإغواءات السردية التي تتناوب فصولها القاتمة بإيقاع متوتّر وأخّاذ. وسوف يروي بعد سنوات أسرار مطبخه الروائي خلال كتابة هذه الرواية، في كتابه «حاشية على اسم الوردة»، وكيف أنه جمع وثائق تتعلق بالعصر الوسيط، وكانت وجهته أن ينجز كتاباً يؤرخ للوحوش. وفجأة لمعت في ذهنه كتابة رواية عن جريمة تجري أحداثها داخل دير للرهبان. هكذا انكب نحو ثلاث سنوات على بناء خريطة للمتاهة التي ينوي إنشاءها بقياسات هندسية صارمة تتلاءم مع جغرافية الدير المتخيّل، ثم قراءة صحف العصر الوسيط وتعيين أشكال السرد وبنية الإيقاع والنّفَس الروائي. حتى إنّه حصر عدد درجات السلّم اللولبي في الدير، ومتاهات المكتبة ليدشنها أخيراً بحارسٍ أعمى، وصولاً إلى شخصية القاتل. ويلفت صاحب «6 نزهات في غابة السرد"» إلى أنه ظلّ ثلاثة أشهر يشتغل على تخيّل المكتبة/ المتاهة، بما يتطابق مع معطيات العصر الوسيط، لافتاً إلى أن «الدخول إلى عالم أي رواية، أشبه بجولة للتنزه في الجبل. يقتضي ذلك اختيار نَفَس معيّن أثناء المشي، والتقدم بخطوات موتورة، وإلا توقف المرء فوراً عن مواصلة التجوال». وبرغم خصوصية رواياته اللاحقة وأهميتها في ابتكار سرديات لافتة، لم تحقّق الشهرة التي حقّقتها روايته الأولى، لكن هذا الأمر لا يعني تراجعاً في حضوره التخييلي، بقدر ما يشير إلى الثقل المعرفي لنصوصه المتفرّدة. في روايته «بندول فوكو» (1988)، يرسم دائرة واسعة من المعارف في تجوال جغرافي على تحولات العالم، بدءاً من القرون الوسطى الأوروبية، إلى الحروب الصليبية، وجماعة الحشاشين، والحركات الدينية، قبل أن يربطها بالعالم السرّي لدور النشر في زمننا الراهن، على خلفية إحالات ثقافية ثريّة، من دون أن يهمل الحبكة البوليسية التي يتكئ عليها في معظم رواياته الأخرى بقصد جذب المتلقي إلى ولائمه البلاغية الدسمة. وتالياً لن نستهجن عدد السنوات التي يصرفها في إنجاز رواية واحدة، فهو ينهمك طويلاً في إعداد مواده الخام، وإعداد الخطط التقنية، وكتابة الملاحظات، وجمع الوثائق.
هكذا صرف 8 سنوات من أجل كتابة "بندول فوكو"، و6 سنوات لإنجاز «جزيرة اليوم السابق» (1994)، ومثلها لكتابة رواية «بادولينو» (2000). في قفزة تاريخية لاحقة، يميط اللثام في روايته الضخمة والمعقّدة «مقبرة براغ» (2010) عن حقائق تاريخية جرى التكتم عليها خلال القرن التاسع عشر عبر خلطة من الشخصيات الهستيرية. لن نستغرب منظر الجثث في إحدى بالوعات باريس، ومعتقلات إبادة هتلرية، ومجازر كومونة باريس، ومحافل أشرار، ووثائق مزيّفة، ومخططات ماسونية، ومكائد كهنة، وجواسيس، ومؤامرات.
ثلاثة رواة يتناهبون الوقائع في لعبة بوليسية مدهشة، تتكشّف تدريجاً، وما علينا إلا أن نلهث خلفهم للملمة خيوط السرد المتشابكة في مذكرات رجل رغب في اختبار ذاكرته، فوصل إلى نتيجة حاسمة بأن التاريخ أكذوبة مكرّرة على نحوٍ سيّئ، أو بعبارةٍ أخرى: كيف نصنع تاريخاً مزيّفاً؟ أمّا روايته الأخيرة «العدد صفر» (2014)، فيفتتحها باغتيال موسوليني وعشيقته (1945)، ويغلقها بمافيا الصحافة الايطالية، على هيئة مذكرات تتبع في وقائعها أيام الأسبوع. بين هذين القوسين، يقذف إمبرتو إيكو حممه في فضح الفساد وعمل المافيا الايطالية، وأبرز الأحداث التي شهدتها بلاده ما بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن بناء سيميائي معقّد يعتمد الرموز، بما يشبه متاهة "اسم الوردة"، في رهان صريح على قارئٍ نوعي في المقام الأول.
بعيداً عن أعماله الروائية، وانشغالاته الفلسفية والسيميائية، التفت أمبرتو إيكو نحو مشغل الكتابة نفسها، وتحوّلات القراءة، والصراع بين الكتاب الالكتروني والكتاب الورقي في نزهات ممتعة ومثيرة للجدل، كما لم تنقصه روح الدعابة والسخرية من عالم ما بعد حداثي يعاني اختلالات مفزعه في صناعة الوهم والنفاق والتناقضات، وذلك باستدراج المألوف واليومي نحو منطقة كتابية مدهشة. هذا ما نجده في كتابه "كيفية السفر مع سلمون" مثلاً. وسوف يواجه عصر الكمبيوتر والانترنت بطمأنينة، نافياً مخاوفه من احتضار الكتاب الورقي "فلو كان لزاماً على الكتب أن تختفي، مثلما حدث لألواح الطين والمسلات التي تنتمي لحضارات عصور سحيقة، لكان هذا سبباً وجيهاً لإلغاء المكتبات. ولكن العكس صحيح، فالكتب يجب أن تحيا كمتاحف تحفظ إنتاج الماضي، تماماً مثلما نحتفظ الآن في أحد المتاحف بحجر رشيد فقط، لأننا لم نعد نحفر وثائقنا ونصوصنا على سطوح معدنية». ويضيف مؤكداً "الإعجاب الذي أكنه للمكتبات سيحمل قدراً كبيراً من التفاؤل، لأنني أنتمي إلي تلك الحفنة من الناس، التي ما زالت تعتقد أن للكتاب المطبوع مستقبلاً، وأن جميع المخاوف المتعلقة باختفائه ما هي إلا مثال آخر لبعض المخاوف المرعبة المتعلقة بانتهاء شيء ما، بما في ذلك انتهاء العالم". متاهة المكتبة التي نتعثر بين ممراتها ورفوفها، وألغاز كتبها النفيسة، ليست مجازاً تخييلياً نصادفه في رواياته وحسب، فهناك نسخة مطابقة منها، هي مكتبته الشخصية التي تضم نحو 30 ألف مجلد، عدا مكتبته الريفية التي تحتوي نحو 20 ألف كتاب، فهذا الرجل غارق بين ماضٍ سحيق، ومستقبل مضطرب. في مقالٍ له بعنوان "كيف أكتب"، يقودنا إلى مطبخه السرّي في الكتابة، وكيفية تشييد عالمه التخييلي. يستبق الأسئلة بأنه لا يمتلك طريقة واحدة لكتابة الرواية، وبأنه ليس من أولئك الكتّاب الذين يستيقظون في الثامنة صباحاً كي يكتبوا مهما كلّف الأمر "ليس أنا من يفعل هذا" يقول. إنه رجل خرائط، وملاحظات، وبورتريهات "لكن ما يحصل بعد ذلك، هو أنني أبدأ بالرمي، التمزيق، نسيان الأشياء في مواقع مختلفة". ويعترف أخيراً، بأن لذّة الكتابة لا تكتمل إلا بلذّة القراءة: «لا أثق بمن يقولون إنّ المرء يكتب لنفسه. هناك شيء واحد تكتبه لنفسك وذلك هو قائمة المشتريات. إنها تساعدك على تذكّر ما تود شراءه، وحين تنجز شراء كل شيء بمقدورك إتلاف القائمة لأنها لا تفيد أحداً. كل شيء آخر تكتبه، إنما تكتبه لقول شيء لشخص ما». ويختتم بقوله «إنه لشخص غير سعيد ويائس ذاك الكاتب الذي لا يستطيع مخاطبة قارئ المستقبل». لعل هذا ما فعله صاحب "القارئ في الحكاية" باطمئنان، إذ لطالما خلخل اليقينيات بسرديات مضادة.
__
انسيرت:
عمارة موسوعية ومشروع فكري يصعب اختزاله في مشتل نقدي واحد