إلى أطراف شارع الحمرا البيروتي يلجأ السوريون على مدار الساعة. عند واجهة مطعم «بربر» يطلبون وجبات اعتادوا تناولها على عجل، فالأسعار هنا مقبولة، وخصوصاً لمن لا يتوقف عن المقارنة بين بيروت وشقيقتها دمشق أيام الرخاء. لساعات الليل المتأخرة في هذا المكان وقع مختلف. يلتقي السكارى وهم عائدون من رحلة حنين متعبة، فيتبادلون تحية تزيّنها بسمة في وجوه جحافل المتسولين الذين يرددون لازمتهم التي حفظها روّاد شارع الحمرا عن ظهر قلب «قادمون من سوريا، ساعدونا بثمن دواء لطفل مريض».
وسط هذا الازدحام اليومي في الشارع الشهير، يكاد المرء يجزم بأنّ أي متشرّد سيكون سورياً! لكن مهلاً، ففي الجهة المقابلة للمطعم المعروف يجلس رجل ببزة رسمية وربطة عنق مميزة بلونها الفاقع، من دون أن تفارقه رجفة يتبيّن في ما بعد أنّها ناتجة عن مرض عصبي. يقترب منه الكاتب السوري زكريا الإبراهيم مترنحاً بعد ليل منهك لم يشرب فيه سوى محيط من العرق وأخواته! يسأل الكاتب السوري الرجل عن الكلام الذي وشمه على جبهته ويديه، فيجيب بنبرة تختصر كل الود في هذا العالم بأنّه على استعداد لقراءة ما وشمه على جسده بعد أن يعقد صفقة بسيطة: وجبة من الهمبرغر يرافقها كأس لبن بارد. وبمجرد أن نوحي له بالموافقة، تنفك عقدة لسانه، ويبدأ بالقراءة كآلة تسجيل مسرّعة: أصابك عشق أم رميت بأسهم/ وما هذه إلا سجية مغرم. وبعد بيت قصيدة يزيد بن معاوية الشهيرة، يطلب الإبراهيم من الرجل التريث، فتبدأ صفقة ساخرة جديدة يعرض فيها الكاتب السوري على المتشرد أن يحفظه قصائد للمتصوفة مقابل ربطة عنقه، فيقبل على الفور «بس ماعندي غيرها» يقول الرجل مستدركاً، فيتراجع الإبراهيم عن طلبه ويبدأ بقراءة أبيات من الشعر الصوفي في موازاة إصغاء المتشرد وابتسامة توحي بزخات مطر بدأت تبلل صحراء ذاكرته.
بعدها، يرد على الإبراهيم برائعة المتنبي «نعد المشرفية والعوالي»، وحالما يصل عند «نصيبك في حياتك من حبيب/ نصيبك في خيالك من منام»، نعرف من بعض عمّال المطعم أنّ الرجل ليس سوى أستاذ جامعي خانه الزمن وأوصله إلى حيث هو: متسكع على قارعة الطرقات، يطلب كل مساء لقمة عيشه من العابرين مقابل قراءة ما تسعفه الذاكرة على تذكّره من عيون الشعر العربي.