ما يتلبّد يتبدّد
واحد من أمرين: إمّا أن يكون وراء تصعيد التجهّم الديني الإسلامي أصابع دُوليّة وإمّا أنّه ناتجٌ طبيعيّ من النسيج الاجتماعي والثقافي الإسلامي.
في الحال الأولى تصبح الظاهرة استجابة داخليّة لحربٍ على الإسلام غايتها تسريع إغراقه في التخلّف وتعطيل أيّ محاولة لعصرنته، سواء بالطراز البورقيبي وقبله الأتاتوركي ثم الناصري والبعثي، أو عبر ربطه بالحداثة التكنولوجيّة والاقتصاديّة كما حصل ويحصل في بلدان الخليج. يغدو التشدّد هنا قناعاً لطابورٍ خامس.
الحال الأولى مؤامرة خارجيّة، وتنفيذها بأيدي «السكّان الأصليّين» خيانة. وهذا يستوجب مواجهة. ومواجهته ممكنة ونسبياً سهلة. فما يَفِدُ من الخارج مصطنع، والمصطنع لا يصمد.
الاحتمال الثاني، أي أن تكون السَلَفيّة ناتجاً طبيعيّاً من النسيج الاجتماعي والثقافي الإسلامي، يضعنا أمام جَدَلٍ بلا نهاية، أو، للحقيقة، يضعنا في اليأس. لكنّه يأس ملتبس: هل كانت العصور العربيّة والإسلاميّة النيّرة استثناء؟ هل يخدع التاريخ نفسه؟ هل كُتب على هذه الأمّة مصير الاستبداد الظلامي قَدَرَاً عضالاً دون سواها من الأمم؟ لكنّ التاريخ يشهد عكس ذلك، والكُتُب أمامنا، والتاريخ قد يكذب بلسان المؤرّخين لكنّه لا يكذب بالقرائن الثابتة والتراث المثبت. لا. الغيوم مثلما تتلبّد تتبدّد.

■ ■ ■


مهما قيل، لا نبرّئ لعبة الأمم ممّا يحصل. في الماضي دعمت بريطانيا الإخوان المسلمين واليوم تدعمهم الولايات المتحدة. وقبل الإخوان «القاعدة». ومن الإخوان إلى أخواتهم تحت شتّى المسمّيات، خطوة. باختصار: إيقاظ التخلّف ودفن المسلمين والعرب تحت ترابه.
لا نبرّئ بل نؤكّد. عند كلّ شعب قابليّة لاستفاقة النعرات. عند كلّ أمّة تناقضات يمكن التلاعب بها. حتّى أصغر الدول تستطيع أن تتلاعب بأصغر منها كما فعل النظام السوري بلبنان ليحكمه بذريعة حقن الدم الأخوي الذي كان هو غالباً ما يسفكه أو يدفع لسفكه، فكيف بدولةٍ عظمى كأميركا وأخواتها؟
ومع هذا، الخطر الأكبر ليس هنا. الخطر الأكبر أن يصدّق المسلمون والعرب ــ العرب خصوصاً ــ أنّ مواجهة الكابوس مستحيلة، وهكذا ينصرون موتهم على حياتهم.
لا ندعو إلى المقاومة فحسب، بل إلى اغتنام فرصة المواجهة لفتح صفحة الثورة العقليّة في الإسلام فتحاً مُبيناً.





«كلّهم حريريّون»
الحريريّة صفة لبنانيّة.
حسب علمي، لم يعبّر أحد عن هذا الواقع قبل رشا أبو زكي، ولا بالدقّة التي صاغتها بها في مقال لها على موقع «المدن» الالكتروني تحت عنوان: «كلّهم حريريّون». (الحريريّة كرمزٍ للخصخصة والفساد وهدر المال العام وتغليب الأرباح الريعيّة على الأرباح الإنتاجية، وغيرها ممّا كان «يرفضه» معارضو الحريريّة).
يشرح مقال رشا أبو زكي كيف تداخلت المصالح بين فريقي 8 و14 آذار «إلى حدّ الانصهار»، وكيف أنّ سياسة التيّار العوني الإصلاحيّة والتغييريّة تكاد تنحصر في مناوأة الهيمنة السنيّة على إدارات الدولة من أجل «وصول التيّار إلى هذه الإدارات كممثل «شرعي» عن المسيحيين. (...) وأسقط التيّار من أدبيّاته فكرةً أساسيّة هي أنّ كلّ حلفائه كانوا جزءاً من حكومات الحريريّة».
وتختم مقالها بالقول: «اليوم كما أمس كما في المستقبل، العونيّون كما حركة أمل وحزب الله والمردة والاشتراكي، كذلك الأحزاب اليساريّة الصامتة عن كل ما يحدث... كلّهم حريريّون».
قبل نصف قرن أطلق الرئيس فؤاد شهاب على السياسيّين تسمية «أَكَلَة الجبنة». اليوم، بعدما تطوّرت بشكل فلكي أساليب النَصْب والنهب، لم تعد عبارة شهاب كافية. لم يعد هذا أكلاً ولا هذه جبنة، بل أضحتْ وليمة سوداء مشكّلة من قلوب الفقراء وجماجم أولادهم.
صفّقتُ لرشا وأنا أطالع مقالها هذا ثم جميع مقالاتها في «المدن». كيف يَظهر صحافيّون بعد بهذه الطهارة في لبنان؟ في لبنان المنخور حتّى الروح بالإفلاس والرشوة والإرهاب؟ في لبنان المَغاور؟
مقالاتٌ من هذا النوع حبّذا لو يقرأها الضحايا، أوّلاً ليعرفوا، ثانياً لتغتسل عيونهم من غبار التضليل اليومي والتعبئة الطائفيّة والمذهبيّة. هناك صحافتان اقتصاديّتان: واحدة تتوجّه بتعليمات مراكز القوى الماليّة التي تموّلها، وثانية مسلوخة من الواقع. الأولى هي الأعمّ، تتوسّل الرصانة الكاذبة لتسويق شهادات الزور، أو التنظير الأكاديمي لتغطية الهروب من المشاكل الحقيقيّة، وكلّها يقتضي علاجها حلولاً ثوريّة هي العدوّ الأساسي لمراكز القوى الماليّة وأنظمة المافيا المتحكّمة في حياة الناس كمّاً ونوعاً.
مقالات من صنف «كلّهم حريريّون» أرقام صارخة ونظرة عادلة إلى الواقع العاري، بنبض حيويّة التمرّد ورفض الانخداع بالمهدّئات والإرهابات.
مثل هذه المقالات لرشا أبو زكي، سابقاً في «الأخبار» وراهناً في «المدن»، ينابيع نقيّة. صفاءٌ غريب وسط هذا المحيط من العَكَر.
«اليوم كما أمس كما في المستقبل... كلّهم حريريّون». فضائحنا هي فضائح بالجملة، دون تمييز. هكذا كنّا منذ صارت بيروت هي لبنان. هكذا كنّا تحت الانتداب، وفي 1958، و1975، وتحت النظام السوري، وبين سنّة وشيعة. عندنا مَن يعارض ليجلس محلّ الجالس ويأكل مثله وأكثر منه. عندنا لصّ جائع يتربّص باللصّ الشبعان. «كلّهم حريريّون».
تحيّةً لرشا أبو زكي الصبيّة الشجاعة. عَجَباً لكِ كيف لم تستسلمي كالآخرين لفلسفة الرابطة الحريريّة الكونيّة العاملة ليل نهار على إقناع الفقراء بأنّهم سعداء!





هدوء لأجل شكسبير
من قراءةٍ جديدة لـ«هاملت» ومشاهدةٍ لفيلم «العاصفة» وقبلهما لمسرحيّات وأفلام مأخوذة من «ماكبث» و«الملك لير» و«ريتشارد الثالث» وغيرها من مؤلّفات شكسبير يمكن تكوين التساؤل التالي: هل النفخ المرافق لإخراج تلك المسرحيّات ضروري أم هو أحد عوامل التنفير منها؟
لكلٍّ الحقّ في مقاربته الخاصّة، ولكنْ ثمّة مَن يجب أن يكون الأكثر مسؤوليّة عن الأمانة. أنْ يكون مرجعاً. وليكون مرجعاً يجب أن يتماهى أشدّ ما يستطيع مع جذور التأليف ومصادره ومبتغياته الخالصة.
معظم الذين أخرجوا مسرح شكسبير اعتمدوا التضخيم والتفخيم، صوتاً وصورة، أداءً وديكوراً. من أورسون ويلز إلى اليوم. وبات التذرّع بلفظة «مسرح» تبريراً للفخفخة والصياح والإرهاب، حتّى في السينما. إنّها مسؤوليّة مخرجين قرأوا بذهنيّة المؤثّرات الخارجيّة لا بإحساس الشاعر.
نتطلّع إلى مخرجين أقلّ بهجرة وأكثر شفافيّة، أقلّ ضجيجاً وأشدّ حميميّة. شكسبير شاعر أوّلاً وأخيراً، رؤياه شعريّة ولغته شعريّة، ويحتاج إلى مَن يحتضنه من داخل ويوصله من داخل ويبقي حرارته في الداخل.
ينطبق هذا على المسرح الإغريقي أيضاً، باستثناء هوميروس ربّما.
يجب أن نعيد قراءة شكسبير لنكتشف كم أنّ إخراجه بأمانة وجمال هو أقلّ كلفة بكثير ممّا يفعله الفاعلون.




«زمن الندوة»
خلال تصفّحي لكتاب «زمن الندوة ــ 1946 ــ 1975» الذي أشرفت عليه رينه أسمر هربوز أتوقّف عند هذه الكلمة لجورج نقّاش (صاحب جريدة «لوريان») قالها يوم 7 أيار 1956: «لئن كان هناك احتمالٌ لعَظَمةٍ لبنانيّة، فإنّ هذه العظمة تبدأ من لحظة وَعْينا لها.
«وأظنّ أنّ هذه الفكرة هي التي ألهمت إنشاء «الندوة اللبنانيّة».
«ما هي هذه القاعة؟ هي، تحديداً، مكان للوعي.
«ونحن مجتمعون هنا لأجل ذلك. لبنانيّون، وبصفة كونهم لبنانيّين، موجودون هنا في حالةٍ تفكيريّة ــ أي أنّهم مدعوّون لوضع مسافةٍ بينهم وبين مَن هم إيّاه، بينهم وبين ما يفعلون ــ كي يرى بعضهم بعضاً ويريد واحدهم الآخر».
هذه الفسحة التعارفيّة التكاشفيّة أوجدها ميشال أسمر، «الأب» ميشال أسمر. خلال ثلاثين سنة كانت محاضرات الندوة تُنَكرزنا نحن شبّان تلك الأيّام لأنّها تتحدّث عن التناغم والسلام والحوار والانفتاح والتعايش والبناء، وكلّها ألفاظٌ ما كنّا نكره غيرها. كنّا نريد عكس الندوة، عكس هذه الرصانة المسؤولة الغامرة الإنسانيّة. كنّا نريد مقاتلة الآباء واقتلاعهم، يلوح أمام أوهامنا لبنان أين منه باريس ونيويورك، وحياة كأنّنا لن نكون فيه إلّا أطفالاً
مدلّلين.
أتمنّى لشباب اليوم الراغبين في قتل آبائهم،
أن يجدوا لدى هؤلاء الآباء المحبّة التي وجدناها لدى آبائنا.