أحياناً يصعب تحديد نوع الخسارة وحجمها في رحيل بعض الأسماء. هذا ما نحسّه بوفاة الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف (1938 ــ 2013) الذي يمكن وصف جهده النقدي بالهامشي قياساً على عمقه وخصوصيته وأصالته. اشتغل صاحب «مقالات في الشعر الجاهلي» على ربط النصوص والظواهر الأدبية بما تقترحه من مراكمات خصبة على تاريخ الأدب، كما أن انشغاله المبكر بالشعر العربي القديم صنع له صلة متينة بأسلافه القدامى، فبدا كمن يستأنف الروحية التي نظر بها هؤلاء إلى العملية الأدبية كلها.
هكذا، كان في استطاعتنا أن نلمس تلك الروابط الخفية التي تجمع حساسيته مع منجزات الآمدي والجرجاني وابن رشيق وغيرهم ممن رفعوا من شأن «المزاج» الشخصي و«التذوق» الذاتي في قراءة النصوص، ورأوا أن «النص العظيم هو ذاك الذي يتناسب مع أمزجة متباينة، ويصلح للقراءة في أماكن كثيرة وأزمانٍ طويلة».
حصر اليوسف تأثير الشعر بالمستوى النفسي تقريباً، ومنح الناقد أحقية البحث عن «الإجماع» وعن «حكم القيمة». صحيح أنه أفسح المجال قليلاً لتسرّب تشكيكات ضرورية إلى أحكامه الخاصة أيضاً، ولكن نبرته ظلت ذات نسيج متفرد، وهي صفة تعززت أكثر مع ميله إلى ازدراء معظم التجارب النقدية العربية في زمنه، وانتقاد الخفة السائدة في مناهج الجامعات العربية وثقافة الصحافة اليومية. في المقابل، قدّر الراحل المنجز الشعري العربي، واستهزأ بالرواية التي لا تزال بعيدة عن منجزها الأوروبي. بطريقة ما، عاش صاحب «بحوث في المعلقات» داخل زمنه، وعلى حواف هذا الزمن أيضاً. ولعل غيابه اليوم يذكّرنا بتجاهل الحياة الثقافية للناقد الذي قابل ذلك بتجاهل مماثل، بينما راح يواصل كتاباته التي يمكن اعتبارها «أدباً مكتوباً عن أدب»، وليس مجرد متابعات ومشاغل نقدية تحدث على هامش النصوص. لن ينسى من قرأوه مبكراً تلك اللغة العميقة والجذابة في الوقت نفسه، وتلك الأطروحات التي كانت تبدو من اختراع الخاص، ومنها نظريته حول الشعراء العذريين في كتابه «الغزل العذري»، ومحاولته الفذة في إيجاد «تعريفٍ» لـ«الشعر العظيم»، وصياغته لتنظيرات مختلفة حول الصوفية في دراستيه المميزتين عن النفري وابن الفارض، وترجمته اللافتة لـ«مختارت من شعر إليوت»، إلى جانب اشتغاله الموسوعي والمنهجي على مفاهيم ومصطلحات كبرى، وهو ما ظهر في كتبٍه كـ«رعشة المأساة» و«القيمة والمعيار».
الناقد الذي صرف جلّ حياته في قراءة الآخرين، وجد وقتاً لكتابة أشياء تخصه أكثر، ومنها مذكراته التي صدرت بعنوان «تلك الأيام»، وروى فيها تجربة الاقتلاع التي عاشها كفلسطيني منذ النكبة التي هجّرته إلى مخيم «نهر البارد» في لبنان، ومنها إلى مخيم «اليرموك» في دمشق التي نزح منها أخيراً بسبب الوضع المتفجر في سوريا، ليموت في المخيم الذي شهد لجوءه الأول. هكذا، رحل اليوسف «مغترباً»، وهي الصفة التي كان يستحسنها في المبدعين والنقاد: أن يكونوا مغتربين عن أزمنتهم ومجتمعاتهم.