الوجوه رموزالرموز خالدة، يقول المحلّل النفسي كارل غوستاف يونغ، صديق فرويد ثم المفترق عنه.
...والوجوه أيضاً خالدة.
الوجوه هي الرموز.
لا وجه إلّا هو رمز.
وما نحبّه في الآخر هو ما يعنيه لنا هذا الرمز.
قد نقع على رأسنا عندما يضلّلنا الرمز _ الوجه فنتّجه صوب أهداف خاطئة في الشخص، لكنّ هذا لا يعني أنّ صاحب الوجه «مستحيل» أن يصادف رمزه، فيلتقي السراب بالماء والمتوهَّم بجسده والظلّ بالضوء.

■ ■ ■


أحياناً تكون روح الشخص مختفية أو مختبئة بين الشفتين، في الظَهْر، في سرّة البطن. لا نعرف. ليست الروح كالعينين والفم. ليست ما يشعّ من النظر، ولو كان النظر يَخْدع فيوحي أنّه هو الروح.
قد تتوارى الروح تحت الوراثة، في ثنايا العادات، وقد ينساها صاحبها بفعل الطموح وشهوة السلطة.
مَن يريد أن يوقظها يجب أن لا يستسلم أمام البرود والجمود، ولا أمام ما يدّعيه الآخر من أنّ طبيعته هكذا وأنّه مفطورٌ على البرود والجمود.
لا أحد بلا وجهه الثاني.
وإنْ لم يجده الباحث فلأنّه لم ينزل إلى قاع ذاته.



ما وراء
ما وراء الحياة ميتافيزيكيّاً يماثله ما وراء الجسد غراميّاً وجنسيّاً. في الأولى يأمل المرء أو يؤمن بأنّ وراء الموت حياة. في الثانية يتوق الرجل إلى الإمساك بما يتخيّله وراء جسد المعشوقة. وقد يكون العاشق ملحداً ولا يَسْلَم من هذا التوق، فهو الخيال يجدّد جوعه.
... في الحالين روح.

■ ■ ■


حيث روحُكَ فاذهبْ.

■ ■ ■


لا تتكلّم إلّا مع «المتواطئين». أفضّل هذه اللفظة على «شركاء». في الشريك حرفة، مصلحة. التواطؤ نشاطٌ نفسيّ قوامه السرّ وفحواه حوافز واستيهامات يُتّفق عفويّاً على إبقائها وراء الستار.
الأفضل، في المطلق، هو أن لا يكون لك شريك ولا متواطئ. كلاهما دخيل. إلّا إذا كان من الجنس الآخر. هنا تدخل لعبة «الإدارة» والطاعة. ولكنّ الخوف يكمن في التساؤل إلى متى يظلّ هناك جنسٌ آخر؟
واضحٌ أنّ الكلام هو مسبّب المشاكل. يكون الواحد لغزاً يستهوي، فما أن يفتح فمه في المقهى حتى يحكي أسخف شيءٍ ممكن. تكون الواحدة... هل من لزوم لإكمال الجملة؟
نعتدي على الهواء بالتلوّث وأيضاً بالكلمات. كلّ كلمة نطلقها قد تكون سهماً مسموماً.

ظاهرةُ عبادةِ المرأة تتأتّى من كون العابد يرى فوق رأس حبيبته شيئاً كالنعمة ينوّر وجهها، تاجاً يجعل الرغبة فيها سيراً في التصعيد، نوعاً من التصوّف الشهواني أو من الشهوة الصوفيّة.
أحياناً يكون ما نطلق عليه اسم الانحراف (أتكلّم عن الانحرافات البسيطة) موجّهاً إلى الطبيعيّين ليبحثوا عن حقوقهم الطبيعيّة في بعض ما يُسمّى انحرافاً وإلى غير الطبيعيّين ليحاولوا أن يروا كم في الطبيعة من معطياتٍ تسبق الخيال ولا تشعر بالذنب.



سيوران القاتل
لمناسبة صدور ترجمة عربيّة لكتابين من مؤلّفاته في «منشورات الجمل» هما «المياه كلّها بلون الغرق» و«تاريخ ويوتوبيا»، والترجمة للكاتب التونسي آدم فتحي، وتتميّز بالجهد المبذول والتدقيق وفهم سيوران فهماً مشبعاً، وقد ظهر ذلك بوضوح في مقدمة آدم فتحي لـ«المياه كلّها بلون الغرق»:
يستوقف سيوران بولائه حتى مماته لسوداويّته ولاءً منهجيّاً انضباطيّاً مدمّراً. فهو لا يترك فكرة أو مفهوماً إيجابياً أو يمكن أن يصبح مصدر فرح إلّا يعمل فيه تفكيكاً. «شريك العدم» سمّاه كاتب فرنسي.
عادةً، هذا النوع من الساخطين تجتمع لديه العِقَد ضد الأحياء لا ضدّ الحياة. تمنّى سيوران مرّة، في جملةٍ ساطعة، لو يستطيع أن يكتب عبارة «تخلع نيع القارئ». عصارة بغضه للآخر. متبرّم نقّاق من الطراز الأوّل، مع أنّه تجاوز الثمانين وكتبه ضربت الرقم القياسي في الانتشار. باستثناء موسيقى باخ، لم يعجبه أحد ولا شيء. أدبه دعوة (أحياناً هزليّة) إلى الانتحار.
بعضنا مرَّ في مراهقته (وربّما في شيخوخته) بمرحلة كهذه. كانت قذفاً لكوابيس الطفولة والمراهقة والخوف من المجهول. وبعضها بَلْورة لحَسَد. لكنْ أنْ يثابر كاتب على «حشيشة الفراغ»، كما فعل سيوران، فأمرٌ لا يضاهيه غير القتل.




خطيئة يوسف بيدس
في العدد الأخير من «فلسطين»، يتذكّر صقر أبو فخر المصرفي العملاق يوسف بيدس. من صرّاف بسيط في بيروت، بعد التهجير من فلسطين، إلى صاحب أكبر مصرف، «انترا»، في لبنان والعالم العربي. كان على عكس «محاسبي» الوسط المصرفي اللبناني، إذا اقتنع بمشروع ينحاز له فوراً بمنتهى الحماسة. عِوض الحذر الصغير والبخل كان يعتمد على غريزته وخياله وثقته بالمغامرة.
يقول أبو فخر: «في تلك الفترة _ الخمسينات والستّينات من القرن العشرين _ كان في لبنان خمسون عائلة تمتلك لبنان كلّه تقريباً، وهي عائلات، كما كان يقول بيدس نفسه، لا ينفكّ بعضها محارباً البعض الآخر، لكنّها سرعان ما تتّحد ضد الغرباء. فعندما أراد بيدس أن يحوّل راديو أوريان والريجي ومرفأ بيروت، وهي مصالح أجنبية في الدرجة الأولى، إلى شركات وطنيّة، خاف بارونات المال أن يحكمها «انترا»، فلجأوا إلى إفلاسه كي يحكموه ولو أشلاء».
كان لإفلاس «انترا» دويٌ عالميّ. ويقول بيدس إنّ الذين عملوا على انهيار البنك هم رئيس الجمهوريّة شارل حلو ورئيس الحكومة عبد الله اليافي وصائب سلام وبيار إدّه وجوزف أوغورليان وسامي شقير، وهؤلاء رفضوا تعويمه، علاوةً على دانيال لودفيغ وديفيد روكفلر. وكان لرجل الأعمال اللبناني روجيه تمرز شأن في تحطيم «انترا» لمصلحة شركة «كيدر بيبودي» الأميركيّة وتشيس مانهاتن بنك.
يذكّر هذا التآمر بالتآمر لقتل القياصرة. ولم يلبث بيدس، مهاجراً خارج لبنان مقهوراً ثم مريضاً، أن مات في سويسرا وقد انتصر عليه غربان المحاسبة. وكبار صحافيي ذلك الزمان شاهدوا ولم يشهدوا، بعدما عاش بعضهم على أفضال بيدس سنوات طويلة.
أنْ ينجح رجل بهذا الحجم وهذه التطلّعات في بلد لا يقدّر الناجحين إلّا في الغربة، خطيئة كلّ زمان.
وقد ارتكبها يوسف بيدس بكلّ حسن نيّة، كما ارتكبها جميع الفلسطينيّين، ولا سيما في الحقلين الفنّي والإعلامي، الذين اندفعوا إلى خدمة لبنان وكأنّه بلدهم.



عابــــــرات


هل هناك «آخر» غير المرأة!؟

■ ■ ■


المرأة هي النصف الثاني للرجل؟ الذي ابتكر هذه الرواية عرف نصف الرجل ونصف المرأة.

■ ■ ■


قال الرسول العربي: «رفقاً بالقوارير!».
لا أفكّر في فتاةٍ أو امرأة إلّا أخاف عليها من أيّ عنف، من أيّ أذيّة.
لم تُخْلَق المرأة إلّا للدهشة والغمر بالمداعبة والحنان. ما يساويها بالرجل خلْقةً هو أسوأ ما فيها، والباقي ليس من الأرض بل من السماء.

■ ■ ■


هناك مَن سيضحكه هذا الكلام، وفي طليعتهم نساء. الفرق في النظر. ولو أدركت المرأة كيف ينظر إليها الرجل لما طالبت بالمساواة بل لاجتهدت للمحافظة على الفرق وإغنائه.

■ ■ ■


تقول فيروز في أغنيتها: «أحترفُ الحزنَ والانتظارْ».
ما كان أجمل لو قالت: «أحترفُ الحلمَ والانتظارْ».

■ ■ ■


النساء البشعات والمنفّرات لا يخطرن ببالي. عندما أقول «امرأة» أشاهد رفوفاً ساحرة ناعمة تبدأ من الفتاة الصغيرة وتمرّ بالعاديّات (وما من امرأةٍ عاديّة «عاديّة») وتنتهي بلا نهاية مع الجميلات. ولكلمة جميلة ألف معنى.

■ ■ ■


هناك استرحام في عينَي المرأة _ حتّى المرأة الشرّيرة أو البلهاء _ لا يراه سوى الأطفال.



إيضاح حول «الجمل»

صاحب منشورات الجمل الشاعر الأستاذ خالد المعالي مستاء ممّا كتبتُه هنا السبت الماضي ويعرب عن ندمه على العرض الذي قدّمه لي، ويقول إنّ هاتفه كان مغلقاً لمدّة أسبوع كان خلالها على سفر.
حيال ما كتبه الأستاذ خالد أتقدّم منه بالاعتذار، مع الإيضاح أنّي لم أكن على علم إلّا باليسير ممّا ساقه من تفاصيل.
على أنّي لستُ آسفاً على سوء التفاهم هذا الذي أدّى إلى طيّ مشروع نشر كتبي المنشورة ونشر غير المنشور. فإذا لم أورّث هذه الكتب لولدَيّ فماذا أورّثهما؟