كبرياء الإسكندر وآسيويّتهأحسّ الإسكندر أنّ هذه الكرة الأرضيّة عذراء ولا بدّ أن يستكشفها.
وراح يستكشف ويكتشف. وممّا وصل إليه لبنان ودمّر صور العاصية.
ومضت به القدم إلى الجبال الوحشيّة الهائلة العلوّ في آسيا.
وظلّ يشعر أنّ الحدود التي قطعها وهم وأنّ الأماكن التي يكتشفها ليس فيها شيء ممّا كان يتوقّعه.
كان الإسكندر المقدوني يبحث عن سراب.
لم تشبعه أثينا وظنّ أنّ «العالم» وراء «الحدود» ولا بدّ له أن يقبض عليه.
أحرق برسيبوليس العاصمة الثقافيّة لآسيا القديمة وللأمبراطوريّة الفارسيّة وأحرق معظم مخطوطاتها العلميّة والفلسفيّة التي لم تكن تُقدّر بثمن وكانت تعتبر من كنوز الحضارة.
وأكمل مصارعاته و«أبوه» زوس يتفرّج على صعوده وانحداره.
وفي لحظةِ انقشاع من تلك اللحظات الباهرة التي تسبق الموت، أدرك أنّه يمشي يمشي ولا يجد «تلك» الأرض.
ومات عن ثلاثة وثلاثين عاماً، قبل المسيح بأربعة قرون، وعن العمر نفسه، وترك لأوروبّا الحديثة، عبر روما أوّلاً، ثم عبر السريان والعرب واليهود وأيضاً أوروبا، إرث الحضارة الإغريقيّة.
هذا الرجل الأسطوري لم يكن يونانيّاً بل من مقدونيا. وحسب قدامى المؤرّخين الإغريق كانت أخلاق الإسكندر (ولا سيما سلوكه الجنسي وعلاقته بالخمر) لا غبار عليها، ثم بدأ يحار ويضيع لمّا أيقن أنّه رافضٌ ومحتقِر لأنْ يتلبَّسَ دور الإغريقي، ومنذ موت داريوس الثالث بالتحديد أخذت «هدايا» القَدَر له تسكره وتملأ رأسه، وراح يتحلّل، حسب المؤرّخ الإغريقي كليتارك في كتابه: «قصّة الإسكندر» (القرن الرابع قبل الميلاد) «ويرتكب مختلف المعاصي وضروب القسوة والعنف».

■ ■ ■


مطاردة الإسكندر المذهلة والمأسويّة لمجاهل الأرض تذكّر بمطاردات عديدة لأهداف لا تسفر في آخر الأمر إلّا عن خيبة. فمن توحيده اليونان إلى مساواته فيها بين المواطن المُخضَّع والمواطن غير المخضَّع (الحرّ)، إلى احتلاله فارس والجوار، وتأسيسه الإسكندريّة في مصر، وتتلمذه على أرسطو، ثم تحلّله كشخص بين عشق الذكور وإدمان الخمر واستطابة ممارسته الظلم والقتل، بونٌ هو نفسه السيرُ من القمّة إلى الجحيم.
لكنّنا نفكّر في مطاردات أخرى قد لا تنتهي بنتيجة، مثل الحبّ، أو بالحريّ العاشق الذي يتقصّى معنى الحبّ، ويريد «أن يفهم»، ولا يعثر إلّا إمّا على الاستغراق في المزيد من الحبّ، وإمّا على نقيض الحبّ.
وثمّة مطاردة التحرّي جافير للهارب المُحسِن جان فالجان بطل «البؤساء». انتهت بانتحار التحرّي المطارد.
وهناك في الأدب الرومنتيكي أيضاً، تَعقُّب الكونت دو مونتيكريستو لرفاقه الذين أجرموا بحقّه، وقد دمّر حياتهم واحداً واحداً بمنهجيّة جهنميّة. وأخيراً، بعدما نجح، اكتشف أنّ الثأر هراء وحرام وندم ندماً شديداً.
بحث الإسكندر هو كبحث القابض على ذيل نفسه. غير أنّ نفسه هنا هالكة لا ممسوكة، والإرث الذي تركه عبر حضارة الإغريق أنعش العالم ولم ينعم به هو، بل سقط كالشهاب، ربّما معاقباً على إحراقه مخطوطات برسيبوليس وإحراق المدينة بعد جعل علمائها وكُهّانها وفلاسفتها بين قتيل وهارب من نار الإسكندر، الذي لم تَقْبَل كبرياؤه، رغم أنّه مقدوني لا يوناني، أن يكون في المدينة الفارسيّة العظيمة كنوز للحضارة تضاهي وقد تفوق كنوز أثينا.
والمتنبّي. والخيميائيّون العاملون منذ عصور على تحويل المعادن إلى ذهب. والأطبّاء الباحثون عن إطالة الحياة وشفاء الأمراض المستعصية. والفنّانون والشعراء الباحثون عمَّن يحبّهم مهما فعلوا. والمرأة التي ترفض أن تتوقّف الرغبة بها. والمظلوم الباكي على الرصيف. وقتيلةُ الدهس المُلقاة في منتصف الأوتوستراد. وإسكندر كلّ يوم، في كلّ بيت.
الإنسان حيوانٌ باحث. لا تسأله عمّا يبحث فهو لا يعرف غير أشباح الغايات. الإنسان حيوان يعرف أنّه سيموت ويريد أن يسبح أطول مدّة ممكنة في بحر العيون المبصرة.





«كلام الناس»
أفرد الزميل مارسيل غانم برنامجه «كلام الناس» الثلثاء الماضي لموضوع إنشاء السيد سليم إدّه بالاشتراك مع الجامعة اليسوعيّة متحفاً خاصّاً بالمعادن الطبيعيّة، وهو من كبار هواة جمعها.
كانت حلقة مميّزة شكلاً ومضموناً، ومرة أخرى يثبت الأستاذ غانم أنّه أهل للحلقات الثقافيّة قدر ما هو أهل للحلقات السياسيّة وأكثر، وليته يكرّس حلقة واحدة على الأقل في الشهر لمثل هذه الإطلالات الحضاريّة التي تعلّم الناس وتعطي عن لبنان صورةً أنقى من الصورة الذليلة والبائسة التي تعطيها صورة السياسيّين يتناحرون بأمراضهم وتبعيّاتهم زارعين كلّ مرّة مزيداً من اليأس في نفوس اللبنانيّين.




ذنوب
تلقّيتُ أمس كتاباً بعنوان: «تبرئة الله» للراهب جوزف قزّي. الراهب قزّي اظنه هو نفسه أبو موسى الحريري صاحب المؤلّفات المتفجّرة عن الإسلام والعلويّين والدروز وسواها. وقد أعمل فكره وعلمه في موضوعات لم يتجرّأ سواه على تناولها. وبكتابه الجديد يتصدّى لمشكلة كبرى هي فصل الله عن الأديان. وكما يفصح العنوان، المقصود تبرئة الله من كلّ شرّ نُسب إليه وحَصْر هذه الشرور في الأديان.
هل كان الله ليكون _ على اختلاف مفاهيمه لدى الجميع _ لولا الأديان؟ وهل كانت الأديان لتكون لولا فكرة الله؟ وحتّى المسيح يسوع، الذي يقول الأب قزّي إنّه حرّر الإنسان تحريراً كاملاً من الموروثات، ألم يؤسّس كنيسته قبل الرحيل؟
كتاب يتحدّى ويتصدّى، وحبّذا لو أوتي قراؤه جميعاً فضيلة المطالعة بمتعة الكشّاف لا بانفعال المعترض، إذاً لأصبح لنا رأيٌ عام يميّز بين البحث والاستفزاز ويُقرّ بعلم العالِم وحريّة الرأي.
يقول لنا كافكا في روايته: «الدعوى» إنّ البطل جوزف ك. لا هو مذنب ولا هو بريء، ومع ذلك سيموت، وإنّ الإشعار بالذنب جزء لا يتجزّأ من الطبيعة البشريّة. إنّنا هنا بعيدون، كما يلاحظ كونديرا، عن مناخ «جريمة وعقاب» لدوستيوفسكي حيث تبدو الجريمة نوعاً من العلاج لشعور بالنقص ويبدو العقاب طموحاً. «جريمة وعقاب» مأساة مسيحيّة بينما «الدعوى» رواية يهوديّة من أوروبّا الشرقيّة، مرّ بها تمساح الاضطهاد أو استشفّت عصره قبل الأوان.
دون أن ندري، نمارس الإشعار بالذنب في حياتنا اليوميّة، بين المنزل وأولاده أو العمل والزملاء والمأمورين. لا يؤوب أحد دون جراح. التوبيخ التربوي يحفر في العمق، خصوصاً آتياً من الوالد أو الوالدة، واللوم المهني يقطع الظهر، أَصَوَاباً كان أم تعسّفاً.
والصحافيّون، مثلاً، ماذا يفعلون غير إثقال ظهور الحكّام بالمعايب من هنا وامتداحِ آخرين بما لا يستحقّون؟ الامتداح غير المستحقّ يترك أيضاً تجويفاً في الروح لعلّه أسوأ من الشعور بالذنب.





الحبّ كتابةً
الكتابةُ صيدٌ في أدغال الذات، يتجدّد انغلاقها كلّما دخلناها. وما نقطفه، ثمارٌ كانت ستسقط على كلّ حال.
أفْضل أخطائي نَجَمَتْ عن انسياق القلم، إمّا مع الإيقاع وإمّا مع اللاوعي، ودوماً مع الانطباع. نكتب لنُذكِّر، دون قصد. تذكير الأمل لا الغضب، ترؤّفاً ولتبريك الأصابع بجرْن الطفولة. نكتب لنُحَبّ، ولو لم نحبّ خارج الكتابة.



عقم وجَلْد
ما قرأتُ أصوب من هذا التعريف للعقم عند ماللارميه: «ما يسمّونه عقماً عند ماللارميه هو ذو أهميّة كبيرة _ إنّه ينقسم إلى عاملين:
ـ كلّ ما كان يُكرِه نفسه عليه.
ـ كلّ ما كان يرفضه».
هذا التعريف هو لفاليري. وهو ينطبق على فاليري نفسه، ولكن لا كدلالة على عقمه (فهو عَدَميّ لا عقيم) إنّما كدلالة على لغته المستمرئة جَلْد نفسها والموغلة في جَلْد القارئ. ومرّات إخصاباً لاستمتاعاته الأكثر باطنيّة.