يستعجل اللاحقون دفن السابقين.إنّها السلطة، في الأدب والفنون والأديان أيضاً. تقول خرافة شائعة إنّ الحضارة تَواصُلٌ واستمرار. ولكنّها خرافة. يرثُ الحاضرُ الماضي شاء أم أبى وليس في الغالب من باب الوفاء. وتَراها وراثة ووراثة. ولم يرث حقّاً إلّا مَن غار الإرث فيه غَوْر الليلِ في مجهوله.
على أنّ اللاحق ليس دوماً جديداً ولا بالحتم مجدّداً وإنّما يأتيه ذلك بتلاقي الضرورة والموهبة، والتاريخ والقَدَر، واللحظة والشخص.
ولا يكفي اللاحق أن لا يقلّد السابق، بل زد انوجاد اللاحق في زمنه انوجاد مَن يَقْطع مع السابق ثائراً غازياً أو مَن يَصل الأوقات وَصْلَ الملخّص لها والمتقدّم إلى الأمام منها بقدراتٍ هَدْميّة وبخَلْفيّة تُوجِدُ العَدَم.

ليست البداية مشيئة محض فرديّة ولا محطّة زمنيّة تعقبها محطّات. وليست الريادة طلائع وموجات بل هي بداية «وكأنّها» من صفر. بداية في غير معنى المتابعة والإكمال، فليس للفجر متابعة وإكمال، وكلّ فجرٍ هو البداية. بودلير رائدٌ دائم. مثله رمبو. قبلهما شكسبير. في العربيّة جميل والمتنبّي وابن الرّومي وأبو نواس. في الأغارقة هوميروس وأخيل وأوريبيد وسوفوكل وهيراقليط. في الفنّانين ميكل أنجيلو ورافاييل وباخ وموزار وبيتهوفن وفاغنر. غداً مَنْ؟ ثمّة في الغد روّاد هم في الحقيقة أصحاب الزمان لا أمس ولا اليوم ولا غداً بل في المسامّ والعروق والحواس والمعتركات.
ثم فيمَ التسابق على صفة الريادة وليست هي المرام _ إن يكن مرامٌ _ بل لحظةُ استحضارِ الحياة استحضاراً أقوى، استحضاراً يجدّد التعلّق بها؟ أليس هذا هو الأدب والفنّ والفكر والجمال؟ إنْ لم يكن هذا فما هو؟ وما التجديد وما شرعيّته إنْ لم يكن تنفيض الحياة؟ وهل غير بَعْث الحياة اسم للإنسان؟ فكيف بالخلّاق؟
في ضوء هذه المعاني _ التذكيرات لا يبقى لاصطراع الكلمات غير طنين الألفاظ الخاوية. كلمات «حداثة» و«تقليديّة» و«ريادة» و«اتباعيّة» و«طليعيّة» و«سلفيّة» قد تؤدّي دوراً في مرحلةٍ من مراحل النطق التغييري، ولكنّها ملتصقة بالأحوال التي أمْلَتْها وليست «شعارات أبديّة». من الواجب على كلّ زائر أنْ يُطلّ ومعه هداياه، أو أن يأتي فارغ اليدين مليء المهجة فتكون تقدمته مفاجأة أكبر. ليس الأدب صراع نفوذ بل نفوذه من انبلاج إشعاعه ولا شأن لعضلات «السلطة» وحِيَل الشطارة ووصوليّة النرجسيّة في إرساء «قيمةٍ» أدبيّة. ومهما يكن ذكاء المتعطّش شديداً فلا نفع منه في الحلول محلّ الأثر، يكون أو لا يكون. وليس هناك «أَدوار» فيأتي الواحد في أعقاب الآخر. لا ديموقراطيّة في الأدب. وإنّها لتدوم لغيرك وقد لا تؤول أبداً إليك.
الموضوع لم يتغيّر حرفٌ من سرّه منذ أوّل تصوير على أوّل جدار. أحبب وافعل ما تريد، يقول أغسطينوس. كنْ واكتب. كنْ ولحّن. كنْ وصوّر. كنْ، أيْ ذاتك أَطعمْ يديك. وليست العبرة في تراكم الخبرات وحده بل في عظمة التراكم في الذات، وربّ مراهقٍ أو طفلٍ بذي عصور.
عنف الداخل يفرش الخارج. يقتحم الدار ويفرض الصمت والإصغاء. عنف الدفق المكبوت يجيش ثم ينبجس فيرسم حوله دوائر الفراغ والترقّب والدهشة والصدمة والنفور والانذهال والحبّ. كلّ لحظة من هذا النوع هي فلذة أَبَد. وعلى قلّتها في التاريخ، فكلّ واحدةٍ منها تبدو أكبر من التاريخ، مع أنّه أطول منها بكثير، ولكنّها هي لحظة الحياة، اللحظة الإلهيّة في الحياة، اللحظة الأمّ، التي يؤلّف مجموعها القصّة السريّة والخلْفيّة والعليا لعظمة الإنسان، بل لما هو أنبل من عَظَمته ومن أيّ عَظَمة: لجمال يديه.






إيذاء

لا نرى كلمة «إيذاء» متداولة. القاموس يذكر الأذى والأذيّة. ألْحَقَ الأذى. القرآن يعتبر الأذى ضرراً خفيفاً. الجميع يورد: أساء، أضرّ، الإيذاء مستهجنة. ومع هذا يقهرنا المعنى على إدخال الياء بعد الألف توكيداً للوجع. الحَقَ الأذى مثل رشرش الملح. بعض
الملح.
المؤذي مؤلم، لا ذلك الشاهر الأنياب فحسب بل خاصّة المرسال الذي يتوسّله القَدَر للهدم وهو ساهٍ عن القَدَر.
لكن... أحقّاً لا يعرف وسيط الشؤم أنّه يبذر فتنة؟




الإنسان الكامل

الإنسان الكامل، في مفهوم الفكر الباطني، هو الذي انتقل من طور العالَم الأصغر الموجود في الإمكان (الكون مختزَلاً في إنسان) إلى طور العالم الأصغر (ميكروكوسم) الآخذ في الفعل. لقد أصبح الخلاصة التامة والفاعلة للعالم. يقول الجرجاني: «الإنسان الكامل هو التقاءُ جميع العوالم الإلهيّة بالعالم الطبيعي، والعوالم الكونيّة وتلك الجزئيّة. إنّه الكتاب الذي تجتمع فيه كلّ الكتب الإلهيّة والطبيعيّة (...) الروح الكونيّة هي قلب العالم الكبير كما أنّ الروح العاقلة هي قلب الإنسان، ولذلك يُسمّى العالم «الإنسان
الكبير»..».




عابـــرات

رأيتُ الجانب الجوهريّ في استرجاع الوقت الضائع عندما ركض شخصان هذا من أوّل رصيف القطار وذاك من آخره وارتميا واحد على الآخر وأجهشا بالبكاء.

■ ■ ■



أين هو أيضاً الوقت الضائع؟ هو في عرقلة أحلامنا لأفعالنا.

■ ■ ■



لماذا الحبّ حَدَثٌ خارق؟ لأنّه يتألّف من مستحيلين: رغبةٌ ستجد نهايتها قريباً، وطرفٌ آخر لم يعرف بعد حظّه فيك.

■ ■ ■



عندما أتحامل على الحبّ لا أشعر أنّي أظلمه بل يحبطني عجزي عن المضيّ أبعد في التحامل.

■ ■ ■



كلّنا جرحى الوجود، وأحياناً الشاعر يتقدّم الآخرين، لا لأنّ جرحه مميّز، بل لأنّه يتميّز عن سائر الجرحى بتطلُّعٍ نحو عالم أكثر رحمة. هذا التطلُّع هو الشعر. لا يختلف شعرٌ عن شعر إلّا بهذا التطلُّع، وبزرقة الطفولة الصامدة وراء جهاد هذا التطلُّع.