جذبته علبة ألوان مائيّة كانت بيد أحد أقرانه في المدرسة الابتدائيّة، حاملةً إلى روحه شيئاً من السحر. سأل بدهشة: «كيف أحصل على واحدة مثلها؟». في اليوم التالي، وفّر ثلاثين فلساً ليشتري علبته الخاصّة. في المدرسة المتوسّطة، لمس فيه أستاذ الرسم، الروائي عبد الخالق الركابي، حبّ الألوان والولع بالتخطيطات. وذات مرّة، حثّه على زيارة معرض دائرة النشاط المدرسيّ في باب المعظّم (بغداد)، ليواجه دهشة من نوع آخر، أمام اللوحات المعلّقة على الجدار. دهشة ولّدت لديه دافعاً ليختبر فعل الرسم بنفسه، فخطّ في الخفاء بورتريهات لوجوه أساتذته، وقدّمها في معرض نظّمته المدرسة.
ومنذ ذلك الحين، صار التلاميذ يتجنّبون مخاصمته. كان ينعم بصداقة الجميع، إذ كان يرسم كلّ لوحات المعارض السنويّة، ويوقِّع عليها بأسمائهم! وحدها المصادفة قادته إلى شراء أوّل كتاب عن رامبرانت. عشقه للمطالعة أوصله إلى مكتبة «التحرير» وسط بغداد، لشراء كتاب عن ليوناردو دافنشي. وجده بسعر 5 دنانير حينها، ومصروفه من أمّه لا يتجاوز 25 فلساً. عاد بعد شهرين من الادّخار، فلم يعثر على مراده. راح يقلّب صفحات كتاب يعرض أعمال صاحب «على طريق عماوس». جذبته تقنية المعلّم الهولندي في معالجة سطح اللوحة، والظلال، والضوء، وخصوصاً في لوحة «الحراسة الليليّة». ربطته بهذه اللوحة لاحقاً قصّة غريبة. وقف بجوارها باكياً بعد عقدين من الزمن، في «متحف الرايكس» (أمستردام). في المكان نفسه، عرضت بعد فترة لوحته «بورتريه للفنان الفرنسي مارك ماري». يتذكّر كيف كان والده، ولمساعدته في تطوير مهاراته، يجلب له صور شخصيات شهيرة ليرسمها، منها غاندي، وجمال عبد الناصر، وهواري بومدين. لكنّ أكثر ما استوقفه في بداياته، كان شكل «البنت» في ورق اللعب. «هذا الرسم، بزخرفته الجذابة، وبساطة تنفيذه، ما زال يحضر إلى الآن في بعض لوحاتي. كما أننّي حلمت دوماً بأن أحبّ امرأةً تشبه تلك «البنت» البعيدة».
لا يحضر في ذاكرة التشكيلي العراقي أنّه كان يملك بيت طفولة. والده البنّاء كان كثير التنقل. هكذا، ولد ستار كاووش في الشاكريّة ثمّ انتقل مع العائلة إلى مدينة الثورة، وبعدها إلى أماكن أخرى... وفي كلّ مرة، كانت تتجدد الصداقات، وتتغيّر الأحياء، وتغيب معها الذكريات المحدّدة. لم يكن ستّار متفوّقاً في دراسته، لكنّه كان مستعدّاً لدفع نصف عمره لدخول كليّة الفنون الجميلة في بغداد. وحين تقدّم بأوراق القبول إلى تلك الكليّة، كان عليه أن يجتاز اختبار رسم أنموذجٍ لأفروديت. نال المرتبة الثانية بين المتقدّمين، ودخل الأكاديمية، لينغمس بمناخها الفنيّ، وروح المنافسة السائدة فيها. وعلى مقاعدها، التقى أساتذةً من كبار التشكيليين العراقيّين أمثال فائق حسن، واسماعيل الشيخلي، وكاظم حيدر، ووليد شيت، وأستاذ تاريخ الفنّ زهير صاحب. «الكليّة هي المحكّ لخلق فنّان مستقبليّ من خلال منحه لمسة خفيّة، لكنّها لا توصله إلى الاحتراف التام، وهذا أمرٌ لا تحدِّده إلا الموهبة والاستعداد الشخصيّ للإبداع». صاحب كتاب «كاووش وعالمه السحريّ»، ربطته صداقات جامعيّة بشعراء وأدباء عراقيّين كثر. «كنت أحسّ دوماً أنّ الشعر هو رئتي الثانية، فإذا نامت الفرشاة قليلاً، أتكئ على الشعر، ليعطيني حلولاً للوحة المقبلة». هكذا، رافقت مسيرته دوماً عبارة أوكتافيو باث «الريشة عصفورٌ حيّ يرزق».
إذا كان معرضه «سيقان وأرصفة» (1987) بمثابة إعلان دخوله على خط المنافسة، فإنّ معرضه الثاني «الباص الأحمر» شكّل مفاجأة للوسط التشكيلي العراقي، إذ اختار رسم ركاب حافلات نقل. «لم أكن أخشى الخطوات المقبلة، مندفعاً نحو الرسم بطريقة غريبة، وبرغبة في التجريب والمغامرة». يقول هذا كأنّه يدعونا إلى ربط هذا النهج الفنّي بعبثيّة وبوهيميّة انسحبت على حياته كلّها، وكانت ربما وراء قراره المفاجئ بمغادرة العراق. «هل تتصوّر أنّنا الآن في العراق ليس لدينا قماشة صالحة للرسم وغير قادرين على صناعة الألوان، فما بالك بالقضايا الأخرى؟». يستبق بسؤاله هذا أيّ حديث عن دوافعه للهجرة في تسعينيات القرن الماضي. لحظة خروجه البلاد، ارتبطت بفوزه بجائزة الدولة عام 1994، وكان ذلك يعني أن يتسلّمها من عدي، نجل صدّام حسين.
مشواره الجديد لم يكن سهلاً. هام في عمّان وفي جيبه خمسة دنانير، أعطاها له القاص عبد الستار ناصر. سافر بعدها إلى كييف، ونام في مترو العاصمة الأوكرانيّة ليالي طوالاً، قبل أن يعثر على «بيت الفنّانين» حيث كانت تباع موادّ الرسم. فهمت صاحبة المكان أنّه لا يحمل نقوداً، فمنحته بعض قصاصات الكانفاس مجاناً. رسم أشكال نساءٍ ورجال، ووجوهاً بشريّة، أطّرها وراح يبيعها للسيّاح بأسعار رمزيّة. أمضى ست سنوات على هذه الحال، تنقّل خلالها بين أوكرانيا والنمسا وألمانيا، قبل أن يصل إلى حلمه، بلد الفنّ: هولندا. أيّام وتأخذه قدماه إلى متحف فان غوغ، ولوحات رامبرانت، في تجوال طويل بين أكثر من 900 متحف.
يشعر كاووش دوماً أنّ اللوحة تشدّه إليها، كامرأة جميلة يتسمّر أمام مرآها. في أعماله استثمار لأجواء «ألف ليلة وليلة»، مزجها بالأجواء الأوروبيّة التي يعيشها منذ 18 عاماً. شوقه إلى أمّه، تحوّل إلى لوحات تجسّد ملائكة، منها «الحديث بصوت هادئ»، التي اختارتها «منظمة العفو الدولية» عام 2007، لطباعتها على بطاقة بريديّة وزّعت في بلدان عديدة. لا ينكر تأثّره بتجارب شتّى في بدايته. بإيحاءٍ من أعمال آندي وارهول، وتيار الـ«بوب آرت»، رسم لوحة «علبة سجائر بغداد» مثلاً. نسأل إن كان نزوعه الدائم إلى التجديد، قد يتعارض مع محاكاته لأعمال وتيارات فنيّة أخرى. لكنّه يدافع عن خياراته قائلاً: «من لا يتأثّر فهو فنّان فطريّ يرسم على سجيّته من دون تأثيرات خارجيّة». أصعب لحظات حياته، يوم اقتربت الطائرة من بغداد فـــي زيارته الأولى إليها عام 2009. لم يترك ذلك يمرّ مـــن دون أن يُخرج أوراقاً وأحباراً، ليرسم وجوهاً غابت عنه، وأخرى صارت مبهمة. بدأ يسأل: «أيّ وجه سيصادفني أولاً، أمّي، أختي، أخي، أم أحد أصدقائي؟ وصل إلى مدينة كان عليه اكتشافها من جديد، فوجدها بلا ألوان مع زحمة سير لا تطاق. شعر بالحسرة لغياب المتاحف، ووجد أنّ بعض زملائه يعيشون في غيبوبة تختصرها عبارتهم المألوفة: «نحن أبناء سومر وآشور وبابل!». برأيه، لا يكفي وجود فنانـين جيدين فـــي العراق، الأهم إنشاء متاحف، ومؤسسات، وغاليريهات، وتنشيط حركة الطباعة للإصدارات الفنيّة... خلال زيارته الثانية إلى بغداد أخيراً، لاحظ «الإصرار على إدامة الحياة الثقافيّة، والمضي بخطوات إلى الأمام». لكنّه يستدرك: «كلّ ذلك لا يقارن بما يجب أن يكون عليه بلد مثل العراق في عام 2012». الحريّة في العراق اليوم ـ بنظره ـ منقوصة ومهدّدة. لكنّه يصرّ على العودة دوماً لرؤية الأهل، وليشبع من التكلّم باللهجة العاميّة العراقيّة... يقطع حديثه بضحكة طويلة، ثمّ يقول: «حينما تعتبر المشي في بغداد نعمة، بربّك هل يعدّ هذا إنجازاً؟»



5 تواريخ

1963
الولادة في بغداد

1984
انتسب إلى «كليّة الفنون الجميلة» في بغداد، وبعد ثلاثة أعوام قدّم معرضه الأوّل «سيقان وأرصفة»

1994
خرج من العراق بجواز سفر مزوّر، وتنقّل بين المنافي وصولاً إلى هولندا حيث يقيم حالياً

2006
قدّم معرضاً شخصيّاً في مؤسّسة «بيت فان غوغ» في هولندا

2012
زار بغداد أخيراً لتوزيع كتابه الأوّل الصادر بالهولندية والإنكليزيّة «كاووش وعالمه السحريّ»، ويضمّ مئة لوحة من بينها أعمال رسمها في العقد الأخير