أكثر مَن يعرف الواقعمن يعرف الواقع ليس الواقعيّ، بل ذلك الذي يبذل قواه لتغيير الواقع ولو عَبْر تجاهله. رافعة الخيال، هذه الأمّ الحنون، أكرم سلطةٍ حظي بها الإنسان.
الرجل يعرف حدود المرأة والمرأة تعرف حدود الرجل. القوّة ليست في التحديق إلى اللحم والعظم وإنّما في استشعار ما لا تستهلكه الحواس بمجرّد المضغ. القدرة هي استشعار السحر في الآخر رغم تعاساته. وما لم نجد في الآخر سحراً فعلى أيّ شيءٍ نشتهيه؟

الواقع، واقع الحاجات اليوميّة، هو ظلْم وَقَع على الإنسان، والمرأة قبل الرجل. هذا الظلم، أو الخطأ في الخَلْق، بانتظار التوصّل إلى محوه، يجب أن نُعرض عنه بما يبهرنا، بما يرفع الانتباه من البشاعة واللعنة إلى زرقة الحلم. أنبل ما في إمكاناتنا، إرادتنا في إصعاد معنى الإنسان ما فوق الوحل ومنحه أملاً بكون الحياة تتضمّن، خلال المسيرة نحو القبر، ومضاتٍ وإشعاعات تومئ إلى ما يتجاوز دقّات ساعة هذه المسيرة. ما يتجاوزها هنا، بين أيدينا، مع بعضنا، بحدود حواسنا وبفائض كياننا معاً: بالخيال والاستيهام والحلم. بالتصعيد الجماليّ. بإغراق المرئيّ بغمام النَّظَر الشارد.
الحسيّ نقطة انطلاقٍ إلى ما يفوقه، وإلّا كان مجرّد فَتْح الباب أمام القرف.


الهواء وحيداً يختنق
هناك ظلمٌ في مشهد الحبّ للمحروم من الحبّ أو العاجز عنه. المحروم سيلحق بالحبّ بين يوم وآخر، لكن العاجز عن الحبّ لا بدّ له من اجتياز الجحيم.
أصعب أنواع التحوّل هو هذا. أشبه بالمعجزة. بولادةٍ من المقلب الآخر للدماغ.
البالغ إلى الحبّ بعد صحراء لن يعود قادراً على التصحّر. العجز سيغدو عجزاً عن الماضي.
ولا نخطئ فنخلط بين الحبّ واللعيان العاطفيّ أو الحبّ وغريزة إشباع الرغبة. في الحبّ أيضاً غريزة، لكنّها نعرة الينبوع المتململ تحت الحجارة قبل أن يتدفّق بعطائه الأعمى الغامر.
العاجز عن الحبّ قد يعوّض بالحريّة، وهي بالفعل تُعوَّض، ولكنْ كمَن يهرب من مرآةٍ إلى مرآة ولا يرى إلّا الصورة التي أراد أن يتجنّبها. الحريّة أريَحُ من الحبّ، راحة الهائم الخاوي، ولكنْ إلى متى؟ هل يكتفي الهواء بأن يكون هواءً في مدى بلا بحر ولا نهر ولا شجر ولا كائنات؟ مَن يداعب عندئذٍ، مَن يلاعب، مَن يُحرّك، كيف يشعر بوجود نفسه؟ قد يلعب الهواء مع نفسه ليلتهي، كما يفعل النرجسي، لكن النرجسي بحاجة، ولو بين الحين والحين، إلى حطبٍ لمدخنته، إلى معجبٍ يلقم إعجابه بنفسه، يُجدّد نظرته العاشقة لنفسه، وإلّا جفّ وتفكَّكَ من الرتابة. الحريّة غير المتلاطمة العواطف، غير المسكونة إلّا بصاحبها، عُنوسٌ عنكبوتيّ حزين.
والهواء وحيداً يختنق.


شيء في حاجة
نُحبّ على قَدْر ما فينا من حبّ لا على قدر ما يستحقّ المحبوب. ما لا يستحقّه المحبوب من هذا الحبّ هو هدر، لكنه هدر ضروري: ضروري لتعديل فائض الحبّ، وضروري لحكمةٍ نجهلها، حكمةٌ قد تكون ـــــ وهذا واحد من اجتهادات لا حدود لها ـــــ زيادة نسبة العطف على المحبوب لتعويض حرمانٍ سابق أو لتغذية عطاءٍ لاحق. العطاء اللاحق ليس عشقاً بالضرورة، قد يكون عطاءً عقليّاً، اجتماعيّاً، فنيّاً، علميّاً.
يضيع ما يضيع ليلتقيه شيءٌ آخر «في حاجة».


حيث يتراجع الضحك
اتّخذتُ قراراً حزيناً.
يريح الكرامة في ضميري ويدمي القلب في الضمير.
كم شخصاً يضجّ في الإنسان ليؤلّفوا رجلاً واحداً؟
ولمَن الغَلَبة؟ للقاسي أم الليّن؟
لشخص نظريّ أم آخر «طبيعي»؟
هنا لا «يمشي» الضحك، الدعوة إلى القهقهة استخفافاً بالتناقض، تمريغاً للعاطفة، انتفاضاً على الأخلاق التقليديّة ورواسبها. لا «يمشي» الضحك.
هنا يتراجع الضحك كما يتراجع العقل أمام ما يصدمه صَدْم البساطة المتناهية أو الجنون الأقصى.
مَن يُقرّر فيك: الجلّاد أم الضحيّة؟
لمواصلة الودّ يجب أن تظلّ ضحيّة، لاستقامة التوازن لا مهربَ من الجَلْد.
اتخذتُ قراراً حزيناً.
وأنا مجلودٌ به أكثر ممّا أنا مُنْصَف.
ضميرنا هكذا. لا يرتاح إلّا بمعاقبة صاحبه.


لا تَذْكُر بل تكتشف
... وهل بدأتَ بالحلم حتّى تقول إنّك انتهيت بالذكرى!؟ بالكاد كان الحلم جزءاً غامضاً من أحد ملامح واحد من الأحلام. لم تتشجّع حتّى على الحلم.
أما الذكرى فهذه ليست ذكرى، وإنّما استرخاءً في غشاوة.
«أيّها الساهر تغفو
تَذْكُرُ العهدَ فتصحو».
يا للشعر ما أشفقه!
أيّها الساهر لا تغفو،
ولا تَذْكُر بل تَكتشف ...


جنون المحبّة

أستنكرُ العبارة الشهيرة التي تقول: «المحبّة العادلة تبدأ بمحبّة النفس».
لا أعتقد.
المحبّة انوهاب. المُحبّ، عندما يناديه القلب، لا يعود له ذات لأنّه يقدّمها في عطاءٍ بلا حساب، ولا يبقي لنفسه غير ما تستبقيه غريزة البقاء.
المحبّة أيضاً، لا الحبّ العشقي وحده، المحبّة أيضاً جنون.


الأرواح الطاهرة
الصيد، بمختلف أشكاله، جريمة. قَتْلٌ مقصود متعمَّد ومتلذّذ.
الحجّة بالطبع هي توفير الغذاء. والأديان جعلناها تمنحنا حقّ التصرّف بهذه الكائنات. تصرّفٌ عنصريّ إجراميّ صرف.
يجب أن نأكل أيّ شيء إلّا الكائنات الحيّة.
وإذا لم يكن هناك طعام غير الكائنات الحيّة، فيجب أن لا نأكل.
تعطينا البقرة حليبها، فلماذا نقتل البقرة؟ يعطينا الشجر ثماره، فلماذا نقطع الشجر؟ تعطينا الطبيعة نعمة جَمال الغزال والتعلُّم من رقّته ودموعه، فلماذا نقتل الغزال؟
يجب أن تتوصّل المختبرات إلى صنع عقاقير تُشبع الجوع وتوقف إزهاق أرواح الكائنات.
أرواح الكائنات أطهر من أرواحنا.



عابــــــرات

هناك وضوحٌ في الظلام لأهل الظلام، وليس هناك دائماً وضوحٌ في النور لأهل النور.

■ ■ ■

في كلام بعض الأشخاص صمتٌ أكثر ممّا في صمتهم. ذلك بأن صوتهم أعمق من سكوتهم.

■ ■ ■

اغرَقْ في مَن تُحبّ حتّى الاضمحلال، الشمس أيضاً تضمحلّ في البحر. وكما تشرق على الجهة الأخرى، قد يشرق حبّك على مَن لا تحبّهم. الكواكب لا تملك نورها.

■ ■ ■

أقوى إغراء أنوثي هو الزيّ الساذج لأنّه استفزاز البراءة.

■ ■ ■

الفردوس اثنان: ذلك المفقود الذي لم يعرف سكّانه قيمته لأنّهم لم يعرفوا سواه، والآخر، الذي يفوق التصوّر، والذي سيتشبّث به الداخلون إليه ولن يخسروه: الفردوس المصنوع بعد سكرةِ الحياة الجحيميّة.
ما أكبر حظّ الذين يصلون إليه وهم ما زالوا في هذه الحياة!

■ ■ ■

اعتذِرْ عن سرورك، واديه يتربّص بقمّته!
عجلْ، أغلق الباب، أنت في خطر من فرحك!